تصورت حالما، أن موعدًا في حجم وأهمية اللقاء الذي عقد، لتأسيس مشروع رابطة علماء ودعاة وأئمة الساحل، سيعرف مشاركة فعالة وحقيقية، لكبار الدبلوماسيين ومسؤولي الإستراتيجيات الأمنية، والمثقفين والإعلاميين، ورموز المجتمع، وتخيلت أن يحظى بتفاعل إعلامي متميز، وليس بتغطيات باهتة، ويتم بنقاش وطني جاد، على الأقل بحكم الظروف المستجدة في المنطقة، والأخطار المتوقعة على الأمن القومي الوطني. وعلى الرغم من الأهمية القصوى، التي تحظى بها منطقة الساحل، جاءت مبادرة هذا المشروع، لتكشف المستوى التاريخي الذي تعيشه النخب، عندنا والأفاق التي بلغها تفكيرها، كما فتحت الأعين على طبيعة السلوكيات التي تنتهجها هذه النخب، وما ينتظر منها في المستقبل، الذي ستشكله خطوط الرمل الإستراتيجية، الممتدة من أقاليم توات وتمنطيط شمالا، إلى حواضر تنمبوكتو جنوبا، وهي الخطوط التي وضعتها الأقدار في مواجهة التحديات التاريخية، ومفاصل تحولاتها المصيرية. ففي الوقت الذي تحتل فيه أوروبا أرض الساحل الأفريقي، وتستولي الولايات المتحدة الأميركية على سمائه، تنشغل نخبنا، ببذل الجهود الجبارة في تحليل أسطوري أقرب إلى الخرافة، وأغرب ما تنشغل به هذه النخب، حين تقول إن "هيلاري كلينتون، قد كشفت سر الأسرار"، عندما قالت إن "أميركا، كانت وراء ميلاد الجماعات المسلحة، وقد انشغلت نخبنا بهذا السر، وشغلت الدنيا ضجيجًا، بالترويج له، وكأنها أمام نبوءة جديدة، وأنها اطلعت على سر خطير من أسرار أميركا، في الوقت الذي نسي العالم هذا الموضوع، وانتقل إلى التعاطي مع المشاريع المستقبلية للغرب عمومًا. تلوك نخبنا، هواجس وأوهام، مفادها أن التغيرات الإستراتيجية في العالم العربي، مجرد أزرار تم الضغط عليها في مخابر موجودة في أوروبا الشرقية المنهكة، وتنذر الناس بألا يصدقوها وأن يحلموا بالتفسيرات التآمرية، ويرفضوا قوانين التاريخ، وهي تمارس أكبر كذبة في تاريخها، وضد شعبها. تدندن نخبنا، حول الكثير من القضايا التي لا علاقة للناس بها، ولا يهتمون بما ينجر عنها من استنتاجات، فهم في واد من الانشغالات والاهتمامات والهموم، بعيدة البعد كله عن أفلاك هذه النخب، ومن البؤس التاريخي، أن تصاب أمة من الأمم، بنخب مهمتها التعليق على الأحداث، والتورط في البطالة التاريخية، والعجز الأدبي، والفقر من الإبداعات كلها، والتطلع إلى المستقبل. تغرق نخبنا، في أبسط الإشكالات والمشكلات، وتقترب من الممارسة الطفولية، تجاه ما يستجد من الأحداث، التي تتطلب مسؤولية أخلاقية، تسجل لمن يحترم نفسه من النخب، إلا أن فقدان الصلاحية لهذه النخب، يجعلها تعيش في دهاليز العدم تنشغل نخبنا، بإثبات أن الثورات العربية، هي مجرد صناعة مخابر غربية، لكنها تعجز أن تثبت قدرة هذه المخابر على دفع المواطن العربي، إلى تفضيل الموت على البقاء في ظل سطوة الحكام العرب، وتحرص نخبنا، على تبرير ما ارتكبته هذه الأنظمة، من فظائع، لتدعو نخبنا الإنسانية إلى القبول بهذه الأنظمة، والرضا بسياساتها، وكأن العالم لديه من الوقت ما يخصصه لمواعظ نخبنا الجليلة، وهي تذكرنا بمن كان يقول ذات يوم، إن "الاحتلال الفرنسي قدر إلهي، وأن الحرية صناعة غربية". تطارد نخبنا الأوهام، وتجد نفسها أقرب إلى معارك دونكيشوت، إلا أنها تفقد متعة صورتها، كون صورتها المتلبسة بالبؤس، لأنها لا تصنع حتى المتعة، ولا ترتقي إلى خوض معارك التاريخ الحالية، وتقع في النهاية في مستنقعات القضايا التي لا علاقة للناس بها، فتركها المجتمع واتجه إلى نخب أخرى، تقترب منه، ويجد عندها إجاباته التي يبحث عنها، حتى تشكل مشهد نخبوي هلامي، مستقبح المنظر، مستوحش الوجود، فارغ من المحتوى والجوهر، ما أدى إلى فقدان شرعية الوجود، وانعدام التفاعل والتأثير. حتى الإحساس بالكرامة فقدته نخبنا، فعدنا تتهم بأن المنتخبين، قد اشتروا مقاعدهم، وأن (الشكارة) هي من أوصلتهم إلى السلطة، لا يتحرك أحد فيهم ليدافع عن نفسه، ويعلن أنه برئ من هذه التهم، وعندما يوصف يوميًا من يملكون الحصانة بأنهم مجمع (الحفافات)، لا توجد فيهم أدنى نخوة، ليحتج أحد، وهي تهمة لو قيلت لأبسط مواطن جزائري، لأقام الدنيا ولم يقعدها، فهل لمن كانت هذه نفسيته، أن يهتم بالأمن الإستراتيجي للوطن، لأنه من هان عليه عرضه، هان عليه وطنه. إن فرنسا أحرقت أكبر مكتبة للمخطوطات في العالم، عندما احتلت مدينة تنبكتو، وألصقت التهمة بالمسلحين، والكل يعلم أنها هي من ارتكبت الجريمة، لسوابقها في إحراق أكبر مكتبة في الجزائر، وهي إذا تقوم بجريمتها، تريد أن تقطع كل حبال الساحل الأفريقي بتاريخه العميق، وبالذات تلك الحبال التي شيدها المغيلي، المنسي في الذاكرة الثقافية الوطنية. إن مهمة مواجهة أمواج التطرف وحملات الإرهاب، تقتضي وجود مفهوم واضح للرؤية الأمنية، والتي تتطلب حجمًا معينًا، من وعي النخب، التي تكون قادرة على تحويل المشاريع الإستراتيجية، من جوانبها النظرية إلى التداول الاجتماعي، والممارسة اليومية، وتجعلها في مستوى الخطة التطبيقية اليومية للمواطن، وهي التي تتطلب المرافقة الحقيقية، لفعل ثقافي جاد وحقيقي، يبتعد عن منطق التنشيط، وأسلوب المهرجان، وطريق الملتقى، ويستعين بالجهد الذكي للعملية الإعلامية، التي تراهم على جودة الرسالة، وجمالية العرض، وتتجنب الترويج المبتذل، والإشهار السطحي. إن إنجاز مشروع رابطة علماء ودعاة وأئمة دول الساحل، ليس بالخطوة الهينة، ولا بالإنجاز السهل، إذا تم تقدير أهميته المستقبلية البالغة، كون الأمر لا ينحصر فيما يتصوره البعض، بأنه محصور على مهمة مرحلية، تنتهي بتراجع الأخطار الطارئة، ويتم فيما بعد، تجاهله وإهماله، كما هي العادة السارية عندنا، فالأمر يمثل تحديًا حقيقيًا، وامتحانًا فعليًا، لإرادة النخب وقدرتها على الانخراط في التاريخ، واستعادة الدور المنوط بها، والمرتبط بمصيرها. إن عاملين من العوامل، في هذا المشروع، يمكن لن يضمنا، تحوله إلى مشروع تاريخي، يناسب متطلبات الأمن الإستراتيجي، وبالذات عندما يتكون من علماء ودعاة (السلطة الروحية) لدول منطقة الساحل، في مستوى الإستراتيجيات الكونية التي دفعتها إلى الواجهة، وتريد أن تجعلها محور استقطاب القوى الكبرى، لتكون دول المنطقة ضحية هذا الصراع البغيض، كما أن اتخاذ الجزائر مقرًا للمشروع، بإمكانه الاستثمار في المخزونات الجيوإستراتيجية، التي تمتلكها الجزائر، وبالذات المخزونات الروحية والثقافية المعطلة منذ سنوات، والمهملة من طرف النخب المغشوشة، التي يكون من الحتمي إنهاء دورها، وتوقيف عبثها، كون رهانات هذا المشروع، لا تتناسب وبقائها في الساحة. كان يمكن لمشروع الرابطة، أن يشكل لحظة اليقظة، وفرصة استعادة الوعي التاريخي، لنخب استعذبت البقاء خارج التاريخ سنوات طويلة، وما زال أمامه بصيص أمل مستقبلي، إذا خرج من ورطة ردود الفعل الآنية، وفتح الأبواب أمام الطاقة المعطلة في المجتمع، وخرج من دوائر التقديس وجدران الخصوصية، واقنع الناس بأن المفاهيم الجديدة للعيش، هي تلك التي تستثمر في كل ثروات الأمة، عبر تلاحم نخبها وتفاعلها مع الرأي العام، عبر انخراط ذكي في تفاصيل الهموم اليومية، والقيام بالواجبات السريعة والملحة، التي تكمن تكاليفها في تلك الإنجازات المستقبلية، التي تجعل من العيش في المستقبل، طموح كل مواطن، واقتناعه بأنه جزء مهم وأساسي، في التكاليف الاجتماعية العامة، وبإمكانه أن يكون قادرًا، على وضع لمساته في هذا المشهد المقبل. إن الأمن الإستراتيجي للدول، يبدأ من حجم حرية وكرامة الإنسان، وما يخطه قلمه، وما تبدعه قريحته، وما يمتلكه من قدرات معرفية، وما يحيط به من مؤسسات ذكية، الأمن الإستراتيجي يبني بالنخب الفاعلة، وما تنتجه من إبداع إنساني، ومن سلوكات حضارية، ومن وعي جاد تستفيد منه شعوبها