مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط لايزال الشعب المصرى قادرا على إبهار العالم ، وإثبات أن التاريخ الذى يستند إليه ليس مجرد أنشودة إطراء ، وإنما أساس يمكن البناء عليه مادامت الدماء تجرى بالعروق ، وتؤكد حين خروجها أنها معين لا ينضب يمكنه أن يروى شجرة الحرية ، حتى تظل باسقة منتجة تظلل كل من يحتمى بها من أبناء الوطن الحر . فعلى الرغم من ان النظم السياسيه التى استقرت على مدى القرنين الماضيين ، قد أشرت إلى وجود نوعين من الشرعية لكل منهما قواعده وسياقاته وهما " الدستورية والثورية " ، إلا أن ما جرى بالأمس كنتيجة لبيان القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية عقب الإجتماع بعدد من الرموز الدينية والوطنية والشباب ، أسس لشرعية ثالثة لم يعرفها تاريخ الثورات بالعالم . تلك الشرعية التى لا تترك مجالا للحقد أو العمليات الإنتقامية والثأرية ، ولا تتيح منفذا لإقصاء أى طرف لأنها تحفظ لكل مصرى مكانا لائقا يتناسب مع إمكانياته وقدراته على العطاء ، بغض النظر عن توجهاته السياسية وإنتماءاته الأيديولوجية ، حتى وإن كان جزءا من مرحلة قامت الثورة لإنهائها . ولا يبدو هذا الأمر غريبا على المصريين الذين قدموا للإنسانية أقدم نظام سياسي في العالم ، بعد أن قامت علي ضفاف نهر النيل أول دولة مركزية موحدة في تاريخ البشرية، وكان لمصر السبق في تجسيد ذلك من خلال أطر مؤسسية لها الدور الهام في صياغة حياة الشعب وحماية قيم الحرية والديمقراطية فيها. فقد حظيت مصر بأول حكومة منظمة (جهاز حكومي منظم) في العالم ، وقبل أن تتحد مصر العليا ومصر السفلى على يد " مينا" موحد القطرين ، كان يحكم كل منطقة منهما ملك ، وفي عام 3100 قبل الميلاد، وبعد توحد القطر في نظام مركزي للحكم؛ قسم إداريا إلى 42 إقليما على رأس كل منها حاكم يديره، لكنه يتبع الفرعون ويطيعه . وعلى مدى التاريخ القديم والحديث كان الهدف الرئيسى من وراء النظم السياسية هى الامة ، والتى هى مصدر السلطات ، فاذا تعارضت الاشكال والاساليب مع مصلحة الامه ، فليس هناك سوى القفز عليها وعلى الاجراءات للوصول الى مصلحة الامة أيضا . وقد عرفت الكثير من الامم هذا الوضع الاستثنائى فيما عُرف بالشرعيه الثوريه والتى تطيح بالاشكال والاساليب التى وضعت اطارها النظم السياسيه والتى تعرف بالشرعيه الدستوريه وتعنى فى مجملها الاطار العام الذى يعمل من خلاله نظام الحكم ، من خلال السلطات الثلاثة التنفيذيه والتشريعيه والقضائيه . وفيما كانت أصوات الصراع بين المؤيدين للشرعية الدستورية والمؤيدين للشرعية الثورية تعلو شيئا فشيا مغيبة صوت العقل ، كانت بوادر كارثة أمنية وإجتماعية تلوح فى الأفق المصرى وتهدد بإحراق الأخضر واليابس ، ما لم يظهر بين الأصوات المتشنجة صوت حكيم يقدم مصلحة الوطن العليا على ما دونها من مصالح . ومع تصاعد حدة الإستقطاب السياسى الذى إعاد إستدعاء مشاهد الدم من ذاكرة المصريين المرهقة إلى واجهة المشهد على لأرض ، ارتفع سقف المخاوف ليصل إلى حد الإستعداد لإقتتال داخلى تحركه ميادين مؤيدة وميادين معارضة ، ينطق كل منها بمنطق الحق فى إدارة البلاد وفق شرعية يراها جديرة بالحكم فى تلك المرحلة شديدة الخطورة . وفيما بدا إستجابة تاريخية لنداء الوطن الذى يعج بالأزمات وتهدده الإنقسامات برز هذا الصوت العالى ، من مؤسسة طالها الكثير من الأذى بسبب دعمها للثورة الأولى فى 25 يناير 2011 ، وأصبحت طرفا فى صراع حسمته الشرعية الثورية ، وحاولت الإنتقال به إلى الشرعية الدستورية عبر سلسلة من القرارات والقوانين داخل أطار الإعلانات الدستورية المتعاقبة . إلا أن المؤسسة العسكرية التى بادرت بتلبية نداء الشارع المتحفز لمرحلة جديدة من تاريخه العريق يكون فيها صاحب الكلمة العليا ، وعت الدرس جيدا متداركة ما جرى من أخطاء الدخول المباشر فى دائرة الحكم خلال مرحلة التحول من " مصر الثورة " إلى " مصر الدولة " . وجاء إعلان الدخول إلى واجهة المشهد واضحا وصارما فى الوقت نفسه ، فلا مجال لإن تصم القوات المسلحة آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب التى إستدعت دورها الوطنى وليس دورها السياسى ، ولا مجال لأن تكون القوات المسلحة طرفا فى معادلة السياسة وأنها سوف تظل بعيدة عن العمل السياسى . فالشعب المصرى الذى أطاح بأعتى الديكتوتوريات فى المنطقة ، لا يمكن أن يقبل أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ، كما أن الجيش الذى إكتوى بنيران السياسة لا يقبل أن يعيد التجربة ، ناهيك عن أن زمن الإنقلابات العسكرية وممارساتها الخشنة قد ذهب بغير رجعة وتجاوزه التاريخ . وإذا كانت الثورة المصرية الأولى فى 25 يناير 2011 قد أزاحت الشرعيه الدستوريه ، إلا أنها لم تؤسس لشرعية ثورية بقوانين إستثنائية ، وإنما جرى الإحتكام إلى إجراءات ومراحل إدارة إنتهت بإنتخاب أول رئيس مدنى قبل وضع دستور حاكم يؤسس لشرعية دستورية . وكان ما جرى على مدار عام كامل من تجاذبات وصراعات ، لم تعتمد أيا من الشرعيتين " الدستورية والثورية " وبقيت الأمور معلقة بين جناح رأى فى إصدار دستور حظى بموافقة حوالى 60 فى المائة هو بداية تحكيم الشرعية الدستورية ، وفريق آخر رأى أن الدستور الذى لا يحظى بتوافق القوى السياسية لا يمكن إعتماده أساسا لمرحلة جديدة من تاريخ الثورة المصرية . وخلافا لما شهدته كل الثورات على مدى التاريخ الحديث ، فأنه لم يتم الإعتراف بانتقال مصر إلى مرحلة الشرعية الدستورية لان الدستور " وفقا لمعارضيه " تم التلاعب به ليجعل الحاكم متسلطا على رقاب الشعب ، وأنه تم تفصيل دستور يتيح التلاعب بمقدرات الشعب ، فتقوم الفئه الحاكمه بقمع الشعب وحرمانه من حقوقه الدستوريه بالترهيب والتزوير،ولذلك برز المطالبون بالشرعيه الثوريه . إلا أن هذه الفئة من الشعب المصرى وفقا لما شهدته الثورة من تطورات ، لم تكن تمتلك أى آليات تتيح لها قدرا من الضغط على الحاكم ، سوى حشد الشارع الرافض للشرعية الدستورية التى يراها باطلة ولا تلبى طموحاته التى قام من أجلها بثورة أطاحت بنظام مبارك . ووفقا لموازين القوى المتعارف عليها فان الشرعية الثورية باتت مهددة بسبب عدم إمتلاكها القوة اللازمة لحماية أهدافها وتوجهاتها ، فيما تقف الشرعية الدستورية أيضا فى موقف ضعيف رغم إمتلاكها مؤسسات الدولة ، وذلك بسبب رفض قطاعات عريضة من الشارع المصرى لها . وقد فرض هذا الواقع حسابات جديدة على الأرض تتطلب أرقاما لم تعرفها معادلات الثورات بالعالم ، ولا تدخل فى نطاقها أى من الشرعيتين المتنازعتين " الدستورية والثورية"، تلك الحسابات التى تفرض نوعا فريدا من الشرعية يكون فيها غالبية الشعب محميا بقوة غير طامعة فى الحكم ، ولا تسعى إلا لمصلحة الوطن ، وهو ما يعنى عدم الإنتصار لفئة ضد أخرى إلا بما يتوافق مع هدف الخروج من النفق المظلم . ووفقا لبيانها التاريخى الذى أسس لنمط جديد من الشرعية فرضته إرادة الشعب المصرى ، فإن المؤسسة العسكرية إستوعبت بدورها الدعوة التى أنتجها العقل الجمعى لشعب تضرب جذوره فى أعماق التاريخ ، وفهمت مقصدها وقدرت ضرورتها وإقتربت من المشهد السياسى، آمله وراغبة وملتزمة بكل حدود الواجب والمسئولية والأمانة . ولهذا فان القوات المسلحة - إنطلاقاً من رؤيتها الثاقبة قد استشعرت أن الشعب الذى يدعوها لنصرته لا يدعوها لسلطة أو حكم ، وإنما يدعوها للخدمة العامة والحماية الضرورية لمطالب ثورته ، وتلك هى الرسالة التى تلقتها القوات المسلحة من كل حواضر مصر ومدنها وقراها ، والتى كانت الإستجابة لها بمثابة معادلة جديدة لها أرقامها فى تاريخ الثورات بالعالم . ومن خلال قراءة المشهد السياسى المصرى وفقا لسيناريوهات رسمتها خارطة الطريق التى قدمتها المؤسسة العسكرية ، فإن هذا المشهد يؤسس لمرحلة إنتقالية نموذجية سوف تصبح منهاجا لأى ثورة قادمة بأى مكان من العالم . فالشرعية الفريدة التى تقدمها مصر حاليا للعالم لتحتل مكانها اللائق فى التاريخ الإنسانى، تشمل إرادة شعبية تدفع بإتجاه الشرعية الثورية ، ومظلة عسكرية حامية لا حاكمة ، ومؤسسة دينية تحافظ على الخصوصية المصرية ، وتعيد اللحمة بين مكونات الشعب وفقا للعقائد الوسطية التى إشتهرت بها مصر " الأزهر والكنيسة " . وتكرس تلك الشرعية ذات الطابع المصرى لضرورة لا يمكن الفكاك منها ، وهى الإنتقال إلى الشرعية الدستورية بعد فترة انتقالية يتولى خلالها رئيس المحكمة الدستورية العليـا مسئولية إدارة شئون البلاد ، تنتهى بعد إجراء إنتخابات رئاسية مبكرة تنتج رئيساً جديداً لا يفتقد إلى الشرعية الجماهيرية أو الأخلاقية . وإذا كانت الشرعية الفريدة التى أنتجها الشعب المصرى ، قد أتاحت مرحلة إنتقالية يديرها فقيه دستورى هو رئيس المحكمة الدستورية العليا ، فانها تؤكد على ضرورة تشكيل حكومة كفاءات وطنية قوية وقادرة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الحالية ، وهو ما يعنى عدم إقصاء أى طرف من العملية السياسية ، طالما تمتع بالكفاءة المطلوبة. ويؤسس هذا المبدأ لعهد جديد من المصالحة بين كل القوى " الإسلامية والمدنية" ، وهو عامل توازن نفسى وسياسى يتيح الإنتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة بسلاسة ، وتكريس قيم العمل المشترك ، وهو ما تفتقده الكثير من الثورات ، التى تتخذ من القرارات والإجراءات ما يعمق إنقسام مجتمعاتها ، وذلك بتكريس مبدأ الإقصاء والتهميش لمن تعتبره طرفا معاديا يمثل مرحلة أنهتها الثورة . فيما يبقى الإطار الذى يعطى لتلك المرحلة من الشرعية زخما ، ويمهد الأرضية لتجاوز الخلافات التى تعمق الإنقسامات ، هو ما أكد عليه بيان المؤسسة العسكرية بشأن وضع ميثاق شرف إعلامى يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيده وإعلاء المصلحة العليا للوطن . فمازالت أصابع الإتهام تشير إلى وسائل الإعلام بكافة إنتماءاتها ، بلعب دور - غير محمود - فى إذكاء نيران الكراهية بين مكونات الشعب المصرى ، وتعميق الشروخ التى أظهرتها الممارسات السياسية بين الشركاء . وليس ثمة شك فى أن تكريس مبدأ المسئولية الإجتماعية فى إعلام المرحلة الجديدة من تاريخ الثورة المصرية ، كفيل بأن يعيد للأمور توازنها من خلال تسليط الأضواء على القيم النبيلة فى المجتمع ، وإشاعة أجواء التسامح بين مختلف المكونات الإجتماعية والتقريب بين كافة التوجهات السياسية بما يصب فى صالح إستقرار ونماء الوطن . ولعل وجود المؤسسة الدينية بمكونيها " الإسلامى والمسيحى " فى خلفية المشهد الذى جرى خلاله الإعلان عن " إنتصار الجيش لمطالب الشعب " ، هو ما يعيد لتلك المؤسسة دورها الذى تم تغييبه داخليا وخارجيا ، بإعتبارها أحد أهم عناصر القوة الناعمة للدولة المصرية . وإذا كان الشباب المصرى هو الوقود الذى إشتعلت به ماكينة الثورة ، فإن إتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب فى مؤسسات الدولة ليكون شريكاً فى القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة ، يؤسس بدوره لشرعية هذا المكون الرئيسى فى بلد لن يشيخ ، وسيظل قادرا على الإمساك بدفة الريادة بما يقدمه من روائع يتوقف أمامها التاريخ طويلا .