أبوظبي – صوت الإمارات
من النادر أن تجد فيلماً من هذا النوع في الصالات المحلية! فيلم يبدو كأنه خرج من حقبة التسعينات ووصل إلينا. هذه الأفلام أصبحت نادرة لا نشاهدها سوى مرة كل بضع سنين، بينما الأبطال الخارقون يحتلون صالاتنا بخمسة أفلام على الأقل كل عام. من الجميل جداً أن نشاهد فيلماً عن أبطال حقيقيين غير خارقين.
فيلم The Light Between Oceans أو "المنارة بين محيطين" مقتبس من رواية أم إل ستيدمان بالعنوان نفسه، دراما إنسانية عن القرارات الخاطئة التي نتخذها ونحن نعلم عواقبها وآثارها علينا. تفتتح اللقطة الأولى الفيلم عام 1918، والحرب العالمية الأولى قد وضعت أوزارها، نرى محارباً اسمه توم شيربورن (مايكل فاسبيندر) آثر العمل في وظيفة حارس منارة في جزيرة معزولة على بعد 160 كيلومتراً من ساحل أستراليا الغربي بين المحيطين الهندي والهادئ.
يتعرف توم بفتاة اسمها إيزابيل (السويدية أليسيا فيكاندر) الحائزة أوسكار أفضل ممثلة في حفل جوائز أوسكار هذا العام. ويتبادلان الرسائل قبل أن يقعا في الحب وتطلب هي الزواج منه. يوافق توم ويعيشان حياة هانئة على الجزيرة المعزولة لوحدهما باستثناء وقت قدوم سفينة المؤونة التي تزودهما بأي شيء هما بحاجة إليه. ثم يقرران تأسيس عائلة لكن لا يوفقان وتسقط إيزابيل جنينين وتدفنهما على الجزيرة.
ثم تأتي المعجزة من السماء عندما يصل قارب إلى شاطئ الجزيرة به مشهد يختصر الحياة: رجل ميت، بجانبه طفلة رضيعة حية. ورغم أن توم يعلم أن الحكومة وقوانين الشركة تحتم عليه الإبلاغ عن كل ما يرده إلى الجزيرة وكان على وشك فعل ذلك، إلا أن إيزابيل أثنته عن ذلك ليتخذا من تلك الرضيعة قرة عين لهما ويطلقان عليها اسم لوسي.
تقنع إيزابيل توم بإبلاغ الشركة في ما بعد أنها وضعت حملها وهو هذه الرضيعة، وأن الأمور على ما يرام وهي ليست بحاجة إلى مساعدة طبية. يذهب توم وإيزابيل إلى الكنيسة لتعميد لوسي، وأثناء خروج توم يلمح امرأة تركع عند أحد القبور، يذهب ليرى القبر فيكتشف أنها أرملة الرجل الميت في القارب ووالدة طفلتهما لوسي. يدخل توم في صراع نفسي بين ضميره بالإبلاغ عما حدث أو الانصياع لرغبة زوجته وتحمل منظر الأم الثكلى التي تظن أن طفلتها ميتة.
الأداء القوي هو الذي يحكم هذا الفيلم من أوله إلى آخره، بل هو ما يثير الإعجاب وهو الذي يبث الروح في الفيلم الذي يرفع من قيمة العمل الفني ليكون أكثر من مجرد قصة عادية في سياق تاريخي معين. لو فصلنا الميلودراما عن الفيلم ستظل لدينا مادة قوية مؤثرة عاطفياً وهو أهم عنصر لفيلم من هذا النوع.
فاسبيندر رائع في دور الرجل المنعزل المتعب نفسياً من ويلات الحرب. فيكاندر هي نقيضته تماماً - فتاة اجتماعية معبرة عن حالها أحياناً بطريقة شديدة. الثلث الأول من الفيلم يركز على العلاقة بينهما قبل دخول لوسي، وهنا نرى التفاعل الجميل بينهما وانغماسهما تماماً في دوريهما (الطريف أنهما وقعا في الحب فعلاً أثناء تصوير الفيلم).
بعد دخول لوسي يصبح النص معقداً أكثر وكلا الممثلين يضطر للدخول في تحولات نفسية جذرية قصوى. النصف الثاني من الفيلم يصبح مؤلماً عاطفياً وغنياً بالأسئلة: هل قرار تبني الطفلة هو اختطاف؟ إلى أي حد يجب إظهار قدر من اللين على مجرم محتمل خصوصاً لو كان الأمر يتعلق بحياة طفل؟ ما المؤهلات الواجب توافرها في الوالدين؟ كل هذه الأسئلة يتركها الفيلم بلا إجابات.
ريتشيل ويز في دور هانا التي فقدت زوجها ورضيعتها في البحر قوي هو الآخر وفي أجزاء من الفيلم يكاد أن يكون الأقوى. هل يجب أن نتعاطف معها أم مع إيزابيل المحرومة من الأطفال؟ ما ذنب لوسي عندما تكبر قليلاً، ونعلم أن والدتها الأصلية أسمتها غريس جراء ما يحدث؟
أروع مشهد في الفيلم والأكثر تعبيراً عندما تلتقي هانا مع توم وإيزابيل للمرة الأولى وترى الطفلة معهما، فتنظر هانا في عين طفلتها وتتأملها كأنها تعرفها وتكاد أن ترتجف لكنها تنجح في التماسك، ليس لأنها علمت أنّها طفلتها، لكن لأنها تذكرت أن لديها طفلة ربما مفقودة أو ميتة.
هذه قصة عن الحب والثمن الذي يجب أن ندفعه لو اتخذنا قراراً عاطفياً، هي أيضاً قصة عن الشعور بالذنب والتسامح والافتداء، وكلها حسب سياق الأحداث قرارات صعبة جداً. كل شخصية تتخذ قرارات كارثية بسبب الحب سواء حب شريك الحياة أو حب طفل، وعلى كل شخصية التكيف مع كل قرار وعواقبه.
المفاجأة أن الفيلم مؤثر دون وجود شخصية واحدة شريرة، مجرد شخصيات مخطئة نتيجة قرارات ناجمة عن سوء استشارات لكن نتفهم تلك القرارات. الفيلم يحوي جزئية قوية لا يمكن التغافل عنها وهي فكرة اختيار رجل عزل نفسه في جزيرة لوحده ليحرس منارة، في الوقت نفسه هذه الجزيرة تعتبر بيته، هذه لم تحصل في كل أفلام دراما النجاة (هذا ليس فيلم دراما نجاة، المقارنة لتشابه الموقف فقط)، دائماً الظروف تجبر الشخصيات على الانعزال، لكن هنا لدينا حالة جديدة خصوصاً أن شخصية توم مثالية لهذا الظرف لأنه محارب، ومن المثير للفضول أن نعلم ما الذي رآه في الحرب جعله يتخذ هذا القرار الجريء، هل هو هارب من ماضيه؟ أم يعاقب نفسه جراء شيء فعله في الحرب؟ كلها أسئلة تستحق الاستكشاف.
هذا الفيلم عميق جداً ومبكٍ، ومن الصعب أن يشاهده شخص دون أن ينفطر قلبه.