أبوظبي - صوت الإمارات
التوهجات الشمسية العملاقة التي حدثت مؤخرا وشوهدت مباشرة كانت بالنسبة للباحثين بمثابة المفتاح الرئيس الحاسم لفهم آليتها وتوقع آثارها المغناطيسية على الأرض التي عادة ما تسبب ضرراً يكون بالغاً في بعض الأحيان ففي العام 1989 تسبب عطل كهربائي في إغراق منطقة الكيبك في كندا في ظلام دامس لتسع ساعات، وفي سبتمبر 2003 اضطرت شركات الطيران لتغيير مسار رحلاتها بين أميركا وآسيا بسبب العواصف المغناطيسية وفي كل سنة تثير هذه التوهجات عشرات الأعطال الإلكترونية في الأقمار الصناعية .
قبل حدوث التوهج ينتشر على سطح الشمس التفاف يشبه الجديلة لخطوط المجال المغناطيسي ويكون في البداية غير واضح المعالم ثم لا يلبث أن يرتفع تدريجياً ليصل إلى علو مذهل يبلغ 100 ألف كم، أي ما يعادل 10 كرات أرضية مصطفة بجانب بعضها البعض . وفجأة تنكسر هذه الجديلة الملتوية وفي ومضة عين، تنطلق منها فقاعة بلازما عملاقة تنتشر في الفضاء الشاسع .
هكذا وبكل بساطة وقوة مخيفة هي الشمس عندما تفرغ شيئاً من الطاقة، لتقذفنا بمليارات الأطنان من المادة، وهكذا أيضا وللمرة الأولى، استطاع فريق من علماء الفلك متابعة هذه الظاهرة بالتفصيل ساعة بساعة ومواجهة النماذج التي يعملون عليها في نهاية المطاف منذ عشرين عاماً لمعرفة حقيقة هذا التوهج المذهل للشمس والثوران الوحشي المخيف .
ولا بد من القول إن ولادة هذه التوهجات الشمسية هي واحدة من أصعب المشاكل التي تواجهها الفيزياء الفلكية . يقول الباحث جوييوم أولونييه المتخصص في هذا الموضوع في مرصد باريس إن مفتاح هذه التوهجات هو المجال المغناطيسي الذي يسود فوق سطح الشمس في جو ترتفع فيه درجة الحرارة لتصل إلى مليون درجة فهو وحده الذي يخفي هذا الكم الكبير من الطاقة .
لكن الصعوبة في هذا المجال هي إيجاد طريقة مثلى نموذجية لحسابه فمثلاً نجد أن الأمور تكون سهلة في حالة الأرصاد الجوية حيث تتراوح التغيرات في الضغط الجوي بين 1-2 % أما في حالة التوهجات الشمسية فيتغير الضغط المغناطيسي بنسبة 300 % وبالتالي نجد صعوبة بالغة في ترويض المعادلات الحسابية .
ومنذ 40 عاماً يعمل الباحثون على حل معادلات هذه التوهجات ولا نجد اليوم سوى عدد محدود من العلماء لا يتجاوزون العشرة في العالم قادرون على التعامل معها وتمكنوا رغم كل الصعوبات من التوصل في خضم هذا الخليط المكون من الحلقات المغناطيسية وخيوط البلازما إلى آليتين فيزيائيتين متنافستين .
الآلية الأولى تستند على الولادة المفاجئة للفائف من خطوط المجال المغناطيسي فوق سطح الشمس، والتي تتحطم في النهاية على هيئة فورة ثورانية هائلة من البلازما تنقذف في الفضاء وتسمى بالحبل المغناطيسي .
أما الآلية الثانية فتتركز على التشويه البطيء لخطوط المجال المغناطيسي الموجودة باستمرار في الغلاف الجوي للشمس والتي تكون على هيئة تدفقات مغناطيسية متعارضة يتم تشذيبها باستمرار ما يؤدي بها أخيراً إلى الظهور على شكل خطوط متقوسة أو (مقنطرات) إلى أن تطلق البلازما .
ولكن ما الآلية الصحيحة أو الدقيقة؟ الحبل أم المقنطرة؟ الحقيقة أن الخيار هنا يبدو صعباً فبعد نصف ساعة من ولادتها يمكن لفقاعات البلازما العملاقة أن تحدث على الأرض مشاكل كبيرة لا تحمد عقباها ولذا من غير المفيد القول إن شركات الطيران والقوات المسلحة وشركات تصنيع الأقمار الاصطناعية يمكنها أن تصبر على تلك المشاكل ريثما يتم العثور على حلول . ومن هنا يرى الباحثون أنه للتنبؤ بهذه التوهجات لا بد من فهم الآلية الفيزيائية التي تتحكم بها وهنا بيت القصيد لأن النموذجين السابقين لا يقدمان نفس المعادلات الحسابية ولا يستخدمان الفيزياء نفسها وبالتالي كان لا بد من البت بالأمر من خلال المعطيات التجريبية .
والواقع أن البت في الأمر جاء على يد طهار عماري المتخصص في الفيزياء الفلكية في مدرسة الفنون التطبيقية (بوليتكنيك) وفريقه العلمي، فقد عثروا على ما يمكن اعتباره بمثابة الحالة المثالية لحل المعضلة . فقبل بضعة أشهر اكتشفوا أنه في ليلة 12-13 ديسمبر 2006 وقع توهج شمسي رصد من خلال ثلاثة تلسكوبات: الياباني هينود، المرصد الأوروبي (سوهو) SOHO ومرصد ميدون في باريس .
ويبدو أن البيانات بلغت من الدقة ما مكن الباحثين من التحقق منها في العام 2011 كما أنها سمحت لهم اليوم تفصيل الظاهرة من البداية إلى النهاية، وبالتالي دمج المعطيات في النماذج لمقارنة شريط المحاكاة مع ذلك الذي سجله الرصد . وقبل أربعة أيام من حدوث ذلك التوهج، لم ير الباحثون شيئاً غير عادي على شاشة الأفلام الملتقطة إلا عدداً قليلاً من الاضطرابات المغناطيسية الفجائية .
ولكن في اليوم الثالث لاحظوا ازدياداً في طاقة المجال المغناطيسي ثم شاهدوا حبلاً مغناطيسياً يظهر ويزداد حجمه . هذا الحبل بلغ حداً من الطاقة أدى إلى أن تفككه لمجرد حدوث اضطراب صغير فيه تلاه وقوع توهج شمسي كبير بعد أربع ساعات .
ويقول جون جاك ألي المتخصص في الفيزياء الفلكية في لجنة الطاقة الذرية والذي شارك في الدراسة: "في هذه المرحلة شاهدنا الحبل بالفعل وبالتالي فإن نموذج الحبل المغناطيسي هو الفائز في الاختبار بل كان أشد وضوحاً مما بدا عليه في نماذج المحاكاة الرقمية" .
يقول طهار عماري: لقد كان حبلاً مغناطيسياً متقناً وهو الذي كنت أدافع عنه في نظريتي ولذا بات الانجاز الذي حققناه في مجال توقع الثورات الشمسية مهماً لأننا اقتربنا جداً من الهدف وهو أن رؤية هذا الحبل ستكون المؤشر الذي لا شك فيه لتوهج شمسي قادم خلال فترة قصيرة من ظهوره .
ويشير عماري إلى أن هذا الإنجاز العلمي الفذ يجب أن يطبق على ثورات شمسية أخرى لأنه لا شيء يؤكد لنا أن كلها تتحرك بنفس الآلية فصحيح أننا أمام تأكيد قوي لواحد من النموذجين المطروحين، لكن هذا النموذج لا يدحض الآخر، لأنه من الممكن في ظروف أخرى، أن تكون الغلبة لنموذج المقنطرات .
عماري يجمع حالياً البيانات لإجراء اختبارات أخرى فالخطوة التالية بالنسبة إليه تتمثل في إنتاج إحصاءات تتعلق بعدد كبير من الانفجارات أو التوهجات فالشمس حسب رأيه أفصحت عن واحدة من غضباتها ولكن لم يزل هناك الكثير المخفي داخل لغز هذا النجم .