القاهرة ـ أكرم علي
في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة العنف في مصر، تسعى قيادة الجيش المصري إلى تضييق الفجوة السياسية الواسعة في البلاد من خلال الوعد بسرعة العودة إلى الحكم المدني. إلا ان تلك المساعي لا تقترب من صلب المشكلة في مصر والمتمثلة بالنظام الرئاسي ، وهو النظام الموروث من عهد مبارك ويضمن في واقع الأمر تكرار الأحداث التراجيدية التي شهدها العام الماضي. إن تحقيق إنفراجة ديموقراطية في مصر يتطلب المزيد من التعديلات الجوهرية في الدستور المصري، بحيث تسمح بنظام برلماني على الطريقة الأوروبية، تتنافس من خلاله القوى السياسية التي تتطلع إلى الحكم. ولو أن مصر كانت قد نجحت في التحول إلى هذا النظام في الدستور المؤقت الذي تبنته قبل عامين أو في التعديلات التي أدخلها محمد مرسي خلال العام الماضي ، لكان بإمكانها تفادي الانقلاب وحالة التجييش والأحداث الدموية التي تعاني منها الآن. إن النظام الرئاسي في مصر يعني أن الفائز هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في اللعبة السياسية. وقد يكون ذلك امرا مقبولا في بلدان مثل الولايات المتحدة الأميركية حيث تخوض التنافس فيها أحزاب منظمة تنظيما جيدا وتعرف تماما إصول اللعبة. إلا أن ذلك النظام أيضا يعد بمثابة وصفة للحكم الاستبدادي في العديد من البلدان مثل مصر حيث يحظى الإسلاميون بمزايا التنظيم القويَ على أرض الواقع أثناء عمليات الإدلاء بالأصوات الانتخابية. ونظرا الى أن خصوم الإسلاميين يواجهون صعوبات ضخمة في التوحد حول مرشح واحد، فهناك إمكانية في أن ينجح الإسلاميون في استثمار قوة أقليتهم في تكرار انتصارهم من جديد في انتخابات الرئاسة. وللحيلولة دون تكرار ذلك، هناك تكهنات تقول بأن الجيش سوف يقمع أية محاولات سياسية تقوم بها جماعة "الإخوان المسلمين" أو أية جماعات مشابهة لها، من خلال تحويل الانتخابات المقبلة إلى مسرحية ديموقراطية هزلية. وأن الرئيس القادم لمصر سوف يجعل من الإسلاميين خصوماً إلى الأبد للنظام الحاكم. والواقع أن نظام الحكم البرلماني، هو الوحيد الذي يمكن أن يفتح لمصر طريقاً واقعياً نحو الاستقرار. وحتى لو فازت الأحزاب الإسلامية في تلك الانتخابات بنصيب قوى من الاصوات الانتخابية، فإنها في تلك الحالة لن يكون في مقدورها احتكار السلطة. ولنرسم معا أفضل سيناريو للأخوان المسلمين. إذ أنه وعلى الرغم من مشاركة ملايين الشعب المصري في المظاهرات التي عمت شوارع مصر والتي سبقت عزل محمد مرسي، فإنه بإمكان حصول جماعة الأخوان المسلمين على ربع مقاعد البرلمان القادم بالإضافة إلى إمكانية حصول السلفيين على نسبة 15 بالمئة من مقاعد البرلمان. وعلى النقيض من ذلك فإن القوى السياسية غير الإسلامية تعاني من حالة تشرذم فهي ممزقة بين العديد من الفصائل بداية من المسيحيين وحتى الحزب الديموقراطي الاجتماعي. وعلى الرغم من إمكانية حصول جماعة الإخوان المسلمين على عدد من مقاعد البرلمان يفوق العدد الذي يمكن أن يحصل عليه أي حزب منفصل إلا انه بإمكان الخصوم غير الإسلاميين أن يتجمعوا معا في إئتلاف حكومي واحد. وحتى لو فشل خصوم الإسلاميين فإن جماعة الإخوان لن تستطيع أن تشكل ائتلافاً حكومياً إلا إذا توصلت إلى اتفاق مع حزب علماني وحظيت بدعمه، لاسيما وان جماعة الإخوان لا يمكنها الاعتماد على السلفيين كحليف دائم. وهناك سيناريو آخر يتمثل في أن يبقى الإسلاميون عنصراً مهماً في اللعبة السياسية، حيث أنهم يستحقون أن تكون المشاركة الديموقراطية، كما أن نفوذهم سوف يضعف من الحجج التي يرددها المتحمسون الدينيون الذين يزعمون بأن الديموقراطية عار. إلا أن هذه الحاجة إلى التعاون في ما بين الدينيّين والعلمانيين لن تتحقق في ظل النظام الرئاسي. وحالما يدعم الجيش انتخاب رئيس يحظى بالقبول ، فإنه من المحتمل أن ينسحب الإسلاميون من المجلس التشريعي. وحتى ولو ظلوا داخل المجلس التشريعي فإنهم سوف يستخدمون منصة البرلمان للتنديد بعزل مرسي ووصف وبديله بأنه رئيس غير شرعي. وإذا ما حاولوا منع التشريع فإن الرئيس الجديد قد يصر على برنامجه بدون دعمهم من خلال اللجوء إلى المحاباة السياسية والفساد الصريح. ولو فشل في ذلك فإنه قد يسئ استخدام صلاحياته وسلطاته على نحو يؤدي بمرور الوقت إلى تقويض أركان النظام الديموقراطي. إن الحكومة البرلمانية لن تكون علاجاً لكل الأمراض ولكنها وصفة جيدة يمكن أن تعالج أخطر الأمراض التي تعاني منها مصر الآن. ومن الأفضل لمصر أن تتبنى النظام الألماني لا الإيطالي، إذ أن الإيطالي يتطلب سقوط الحكومة فور سحب الثقة منها بينما النظام الألماني يسمح للحكومة القديمة الاستمرار في الحكم إلى أن يتم الاتفاق على الحكومة الجديدة. إن مستقبل مصر سوف يعتمد على مؤهلات وحنكة قادتها السياسيين ومدى فعالية سياساتهم. إلا ان الخطوة المهمة والمصيرية تتمثل في التوجه نحو ديموقراطية برلمانية تم الأعداد لها على نحو جيد ومن شأن ذلك أن يخلق نظاماً دستوريأً يشجع الديموقراطيين من كل الأطياف للتواصل في ما بينهم. إن خارطة طريق الجيش الحالية والإعلان الدستوري لا يفكران في مثل هذه الانفراجة ومع ذلك فإنه لا يستبعدها. فالإعلان الدستوري الذي صدر عن الرئيس المؤقت يقضي بتشكيل لجنة مكونة من عشرة قانونيين لتعديل الدستور الذي ستجري على أساسه جولة الانتخابات الجديدة القادمة. ومن المنتظر أن تستكمل اللجنة تعديلاتها خلال شهر ثم تقديمها إلى لجنة أخرى أكبر تتكون من 50 شخصية تمثل مختلف المؤسسات الحكومية والنقابات والكيانات الاجتماعية بالإضافة إلى شخصيات بارزة. وسوف يقوم تلك المؤسسات باختيار بعض من هؤلاء بينما يختار الرئيس البعض الآخر وسوف تقوم كل من الشرطة والجيش باختيار ممثليهم. وفي حالة موافقة اللجنة الأكبر على التعديلات يتم طرحها في استفتاء عام بعد ثلاثة أشهر ثم يعقب ذلك باسبوعين انتخابات برلمانية. كما يدعو الإعلان الدستوري إلى إجراء انتخابات رئاسية بعد ثلاثة أشهر من اعتماد الدستور الجديد. وفي ضوء هذا الترتيب الزمني فإن الإصلاحيين يمكن ببساطة أن يطالبوا بإلغاء الخطوة الأخيرة من الجدول الزمني ويطالبون الجيش بتسليم الجيش السلطة إلى المدنيين فور حصول ائتلاف حكومي على دعم أغلبية البرلمان. والسؤال الآن يتمثل في ما إذا كان الشعب المصري سوف ينضم إلى تلك حركة شعبية أوسع تطالب بإلغاء النظام الرئاسي قبل أن ينقض على تجربتهم الديموقراطية الرائعة؟.