بقلم:مصطفى الفقي
امتدت حياتى منذ صدر شبابى فى اتجاه أفقى وليس رأسيًا، وبذلك كانت لى علاقات وثيقة مع مجموعات بشرية من كل المهن والحرف وأصحاب المواهب والتخصصات؛ من مفكرين وأدباء وعلماء وشعراء، إلى رواة من فلاحين وعمال من أبناء الريف والحضر، فتكونت لدىّ مجموعة متماسكة من أهل الرأى وذوى المعرفة الذين كانوا نجومًا فى سماء الوطن لسنوات طويلة، وكنت أتمنى أن أتحدث اليوم عن الثورة المصرية فى عيدها وهى التى غيرت معالم المنطقة وأثرت تأثيرًا كبيرًا فى مجريات الأمور وأحداث العالم المعاصر، ولكننى آثرت أن أدور على هوامشها من خلال شخوص مؤثرة فى عالم الفكر والأدب والفن، واخترت اليوم صديقين تجمع بينهما عوامل كثيرة،
أولهما أنور عبد الملك وهو مفكر مصرى كبير ربما لم ينل حظه كاملاً من الاهتمام والعرفان، وقد تقلب بين الاتجاهات اليسارية والتوجهات اليمينية ولكنه ظل فى كل الأحوال نجمًا متألقًا، جمعتنى به صداقة مبكرة واتقفنا على أن نقيم له صالونًا شهريًا برعايتى ومتابعتى، لكن الأمر توقف بعد جلستين شأن كثيرٍ من المبادرات التى نتحمس لها فى البداية ثم يخبو ضياؤها مع الوقت.
ولقد كان ذلك المفكر الكبير شديد الاهتمام بالقارة الآسيوية ودولة الصين وهو من أوائل من بشروا بطريق الحرير ودعوا إلى ضرورة إحيائه منذ عدة عقود، ثم كانت المناسبة الثانية عندما عينت سفيرًا لبلادى فى النمسا وكانت زوجته الأولى نمساوية أنجب منها ابنة واحدة لم تكن على وفاق مع أبيها، فكان يسعى إلى العاصمة فيينا بين الحين والآخر يسترضى ابنته الكبيرة ويشبع مشاعر الأبوة برؤيتها، ولقد تابعت معه ذلك الأمر حينًا فحينًا ولكن تجاوب الابنة وتربيتها الغربية لم تكن متوائمة مع الروح الشرقية التى نتحلى بها. وقد دعوته إلى محاضرة عامة فى أحد القصور الكبرى بالعاصمة النمساوية وكان اللقاء متسعًا ومؤثرًا لمفكر كبير، تولد عنها كثير من أفكاره التى خرجت من رحم المعاناة وتجارب العمر التى مر بها وخطوط الزمن المحفورة على وجهه، فلقد كان الرجل يحمل صفات كبار المفكرين إذا تحدث وتواضع العلماء إذا صمت. وقد ربطته بالدولة الفرنسية صلات قديمة وطويلة، ولم يكن دائمًا على وفاق مع بلاده وسلطاتها المتعاقبة لأنه كان شخصية مثيرة للجدل ومصدرًا للتساؤل، وقد حاولت كثيرًا أن أكون جسر تواصل بينه وبين بعض رموز السلطة فى أحقاب سابقة، ولكن الرجل لم يكن مفهومًا بشكل جيد لديهم كما لم يكونوا مقبولين لديه. وفى ظنى أن نموذج ذلك المفكر الحائر بين رؤيته الذاتية التى تتناقض إلى حد كبير مع الظروف المحيطة هو نموذج حقيقى لمعاناة المفكر المعاصر فى مجتمعات مغلقة نسبيًا.
أما الكاتب والروائى الثانى فهو الصديق الراحل الفريد فرج الذى جمعتنى به صدفة أدت إلى علاقة وثيقة لسنوات طويلة، وقد كان يتوهم أن بيدى شخصيًا حل أى مشكلة يواجهها؛ ولا شك أن ذلك كان إفراطًا فى التفاؤل وحسن النية وزيادة ثقة بى نتيجة وظائفى السابقة، وقد التقيته على المستوى العائلى أيضًا فى وجود قرينته السيدة ثريا ولاحظت أنه يتمتع بقسط وافر من حسن الخلق وطيبة القلب ونزاهة المقصد، مع شعور تلقائى بحجم المعاناة التى كانت تحيط بنا وتفرض نفسها علينا لأسباب يصعب شرحها. وكنت كلما اقتربت من ألفريد فرج شعرت (بالونس الإنسانى) على حد تعبير الراحل مفيد فوزى. ولقد اخترت هذين النموذجين اليوم كعينة للإسهام البشرى فى توسيع مداركى وتغيير مسار حياتى أحيانًا، فالانغلاق على فئة معينة أو تحويل نادى الأصدقاء إلى كيان مغلق هى أمور تحتاج إلى تطلع أفقى حولنا قبل أن تحتاج إلى تطلع رأسى يشدنا. وسوف أكتب عن ثنائيات أخرى لشخصيات قد لا يجمعها رابط ولكن تربطها عوامل محددة وظروف لا تخفى على القارئ.. تحية لمن رحلوا، واحترامًا لكل من يواصلون الحياة فى ظل عالم متغير وأحوال مختلفة ورؤى جديدة فى الفلسفة والفكر والأدب والفن وغيرها من مسارات الحياة التى تمضى فى عشق الأوطان ومحاولات فهم الإنسان!.