بقلم - مصطفى الفقي
أحرص فى هذه الكتابات– المختصرة- على الاعتراف بشخصيات لها وزن فى التاريخ المصرى الحديث ولها دور فى الحياة الفكرية والثقافية للوطن، وأختار بين الثنائيات التى أكتب عنها ذلك التشابه فى النهج الفكرى للقطبين اللذين أجعلهما محورًا للدراسة، واختار اليوم شخصيتين رحلتا عن عالمنا منذ سنوات قليلة وكان لكل منهما دوره فى الحياة العامة المصرية، فالأول هو المستشار طارق البشرى رجل القضاء وفارس مجلس الدولة طوال خدمته المشرفة كمثقف ومفكر.
كبير اختار الدراسات القانونية تخصصًا له امتدادًا لبيت البشرى العريق المعروف بالاهتمام بالشريعة والقانون والفقه الإسلامى وتاريخ الحضارة العربية فى عواصمها المختلفة، ويعتبر طارق البشرى هو الرائد الحقيقى للدراسات السياسية للوحدة الوطنية فى إطارها الحديث، وإليه يرجع الفضل فى الكتابات المبكرة فى النصف الثانى من القرن العشرين حول المفهوم المعاصر للتعايش المشترك بين المسلمين والأقباط فى مصر المحروسة، وهو الذى صك تعبير (الجماعة المشتركة) تأكيدًا لهذا المعنى وارتباطًا به.
وذلك فى إطار من الجنوح اليسارى والانضواء تحت سماء الفكر الاشتراكى. وقد اقترن بسيدة فاضلة هى الأستاذة عايدة العزب موسى، وهى أيضًا سليلة بيت علم ودين، ولقد تأثرت شخصيًا بشخصية وكتابات طارق البشرى، بل لعله كان أحد الأسباب التى دفعتنى لاختيار موضوع دراستى للدكتوراه فى جامعة لندن حول (الأقباط فى السياسة المصرية.. مكرم عبيد نموذجًا)، فانصرفت قراءاتى فى ذلك الاتجاه حيث كنت أقضى الساعات الطوال فى مكتبة المتحف البريطانى فى لندن، أو فى مركز الوثائق البريطانية حيث المراسلات المتبادلة بين القاهرة ولندن على امتداد سنوات القرن العشرين.
لذلك اخترت المستشار الجليل طارق البشرى لكى يشرفنى بكتابة مقدمة الطبعة العربية من أطروحة الدكتوراه التى تحدثنا عنها. وقد عُرف طارق البشرى بالصلابة فى الحق والتمسك بالمبدأ وقد انتقل انتقالًا كبيرًا من معسكر الكتابات المحايدة تجاه النظام السياسى المصرى إلى معسكر آخر لا يخفى انتقاده لما يجرى، ويسعى إلى تأكيد رؤيته الفكرية عالمًا مجتهدًا وفقيهًا قانونيًا ومؤرخًا أمينًا، وقد تشرفت أن اشتركت فى إصدار كتاب حرره المستشار طارق البشرى والمستشار الدكتور وليم سليمان قلادة وكاتب هذه السطور بعنوان «وطن واحد وشعب واحد».
وقد كتب لنا مقدمة ذلك الكتاب أستاذنا الراحل الدكتور بطرس بطرس غالى، ولقد كشف البشرى عن موقفه المعارض لبعض إجراءات يوليو ١٩٥٢ وقواعد الانطلاق فيها نحو المستقبل، وأتذكر أننى نقلت إليه ذات مرة رسالة من الرئيس الراحل مبارك بشأن معيد شاب كان أبوه ضابطًا طبيبًا وصديقًا للرئيس الراحل، ولكن البشرى اعتذر عن تلبية الطلب وقال لى: أبلغ السيد الرئيس أن ما يريده والد الشاب هو أمر لا يتفق مع صحيح القانون ومبدأ تكافؤ الفرص، وأُشهد الله أن الرئيس مبارك- رحمه الله- تلقى ذلك الرد بسعة صدر وقال: ما دام يتعارض مع صحيح القانون والقواعد المعمول بها فإننى أصرف النظر عن التزكية وأتركه مثل زملائه لميزان الفرص المتكافئة.
وعندما جاء دور طارق البشرى ليترأس مجلس الدولة بحكم الأقدمية سعت وزارة العدل المصرية إلى قطع إعارة المستشار الجليل على الخادم ليعود من إعارته فى سلطنة عُمان ويتولى رئاسة مجلس الدولة تفاديًا لوصول المستشار طارق البشرى إلى ذات الموقع. وتكمن قيمة البشرى الحقيقية فى تلك الحيوية الفكرية التى نقلته من مصاف الأكاديميين فقط إلى مصاف السياسيين أصحاب الرأى وذوى الانتماء الواضح الذى بدأ يأخذ أبعادًا إسلامية برزت فى كتاباته بعد ذلك وظهرت فى مقالاته الرصينة.
أما الفارس الثانى فهو د.ميلاد حنا صاحب المعاناة الذاتية التى شعر بها لسنوات طويلة، وكان يؤمن فى كل أحاديثه أنه كان يمكن أن يحصل على فرص أفضل فى الحياتين الأكاديمية والسياسية لو لم يكن قبطيًا، وذلك رغم أن علاقته بالكنيسة الأرثوذكسية والبابا شنودة الثالث لم تكن فى أفضل أوضاعها، وقد جرى اعتقاله فى سبتمبر عام ١٩٨١ ليخرج من السجن ابنًا بارًا للكنيسة بعيدًا عن شرنقة النظام السياسى القائم حينذاك، وقد انتقل الرجل من مناضل يسارى فقط إلى مفكر عقائدى قضيته الأولى هى الدفاع عن الحريات والتمسك بالمفهوم الدقيق للوحدة الوطنية، وتعاطف واضح مع قضايا شركاء الوطن من أقباط مصر.
وأتذكر حاليًا ذلك الشعور المكتوم بالمرارة وهو يدعونى إلى حضور حفل عيد ميلاده الثمانين بعد سنوات حافلة فى خدمة قضايا التعايش المشترك وأهمية رعاية الطبقات الكادحة بدءًا من (جمعية الإخاء الدينى) التى تزاملنا فيها عدة سنوات.
ولعل التشابه بين الشخصيتين؛ البشرى وحنا، يعكس بالضرورة ذلك الشعور الذاتى للمفكر خصوصًا فى سنوات عمره الأخيرة، وهو ما أغرانى بأن ألتزم بالكتابة عن الشخصيتين معًا لأن أوجه التحول الفكرى تعكس القدر الكبير من التأمل الذى قضاه كل منهما قبل أن يقتحم مجال السياسة، وأؤكد مرة أخرى أن الانتقال من منبر سياسى إلى آخر بل إن التحول العقائدى هو أمر يمضى مع طبيعة الأشياء، ويتمشى مع ناموس الوجود والمتغيرات الوافدة التى تطرأ على النفس البشرية!.