بقلم - مصطفى الفقي
إن تداول السلطة من سنن الحياة، كما أن دوران النخبة من طبيعة البشر، لذلك لاحظنا أنه ما إن طوى القرن الـ20 صفحاته واستأذن في الانصراف بعد معاناة طويلة للعرب في ذلك القرن من خلال تطورات غير مسبوقة، خصوصاً في ربعه الأخير إلا وبدأت بعض أوراق حكام عرب تتساقط بحكم الزمن وحركة التاريخ، فرحل عدد كبير من الملوك والرؤساء ووصل إلى سدة الحكم شباب مختلف، يضخ دماء جديدة في شرايين الحياة السياسية، خصوصاً أنه تواكب مع ما سميناه "الربيع العربي" بكل ما له وما عليه، فتبدلت الأحوال وتغيرت الأوضاع حتى أصبحنا أمام عالم عربي جديد تمسك بزمام الأمور فيه مجموعات شابة لم تكن متاحة على مسرح الحياة السياسية قبل ذلك.
بل لقد أصبح لدينا قادة في مقتبل العمر ويحملون في الوقت ذاته أفكاراً رجعية ولا يخرجون عن الأنماط التقليدية، ولقد استأثرت السعودية بنصيب وافر من التطور الإيجابي الذي لم يكن متوقعاً وآلت إليها نوعية جديدة من الريادة الفكرية تقوم على الحداثة واستيعاب المتغيرات الدولية والإقليمية، فكان ظهور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ودوره بمثابة تجديد حقيقي للدماء العربية، ونافس أتاتورك الذي جاء بأفكار إصلاحية ذات طابع شكلي في مجملها، لكنها لم تكن متاحة للأتراك في سنوات صعودهم الحديث وجرى شيء مثيل بدرجات متفاوتة في دول الخليج العربي، زعامات شابة وأفكار متحررة ورؤى عصرية تواكب الزمان والمكان مع رغبة في الخروج إلى العالم الواسع بصورة مشرقة وعقلية مختلفة.
وسرت تلك الروح العربية الجديدة وتناقلتها الألسنة إقليمياً ودولياً، وبدأنا نتحدث عن تحولات جذرية على الساحة العربية، ولقد احتوت الأسابيع الأخيرة تلخيصاً واضحاً لهذه الروح التي صنعت درجة عالية من الحيوية في أرجاء الوطن العربي، فمن المؤتمر العالمي حول تغير المناخ الذي عقد في شرم الشيخ المصرية إلى مونديال كأس العالم لكرة القدم الذي جرى للمرة الأولى على أرض عربية في دولة قطر، ثم كانت القمم الثلاث للصين والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية، جاء ذلك كله تأكيداً أن فجراً جديداً يلوح في الأفق وأن صورة مختلفة للعرب تكتمل أمام مشهد واضح لمسيرة عربية كان من المقدر لها أن تمضي مع حركة الزمن وتطور الظروف، ويهمني هنا أن أناقش القضايا الآتية:
أولاً: إن الأمة العربية معروفة بتراثها العريق واحتوائها لحضارات قديمة وثقافات كبرى، فضلاً عن احتضانها للديانات السماوية الثلاث، لذلك فإن الركام المتعاقب على أرضها يجسد سبيكة حضارية خاصة تجعل اعتزاز العرب بماضيهم جزءاً من رؤيتهم للحاضر وتصورهم للمستقبل، لذلك فإن الماضي يشد العرب دائماً بحنين قوي إلى عصور مضت وعهود قضت، ولذلك ثارت عبارة "أمجاد يا عرب أمجاد" تعبيراً عن هذا الشعور الدفين الذي يطفو على السطح بين حين وآخر، ولا بأس أن تكون لأمة معينة درجة من العراقة تشد تاريخها وراءها وتحمله على كاهلها شريطة أن لا تتجمد عنده وأن لا تتوقف أمامه، بل تنطلق منه إلى ما هو أجدى وأنفع في بناء الحاضر وصياغة المستقبل، لذلك فإن اتجاه العرب نحو الحداثة بمضمونها الفكري والسياسي والثقافي هو نقلة نوعية نتطلع إلى استكمالها ونسعى إلى تعزيزها.
ثانياً: إن هناك صحوة عربية ملموسة تعيد ترتيب البيت في كل قطر عربي وتسعى إلى توظيف الموارد الطبيعية والبشرية أفضل توظيف وتلك في حد ذاتها قفزة هائلة نحو المستقبل لأننا كنا متهمين بإهدار الموارد وغياب القدرة على الإفادة من الفرص المتاحة، وها هي دول مثل السعودية والمغرب ومصر ومعظم دول الخليج العربي فضلاً عن الجزائر تتجه في مجموعها إلى الصعود على درج التقدم من خلال الصناعات الجديدة والمشاريع العملاقة والأفكار البناءة حتى تكسر حاجز التخلف وتنطلق إلى الأمام، خصوصاً أن العرب يمتلكون مفاتيح خزائن الطاقة التقليدية والجديدة أيضاً، فضلاً عن وجود قاعدة علمية نشطة في معظم الدول العربية بغير استثناء، ولا شك في أن الاستقرار السياسي يتحمل مسؤولية كبيرة في ذاته، فالدولة السورية التي تدفع ثمناً فادحاً لوضعها السياسي بعشرات الألوف من اللاجئين والنازحين منها هي تعبير إضافي يؤكد أهمية الوضع السياسي واستقراره في تحديد نقطة الانطلاق نحو عصر مختلف ومعطيات جديدة.
ثالثاً: لقد اندمج العرب للمرة الأولى في تاريخهم الحديث اندماجاً تفصيلياً في قضايا العصر بمعطياته الجديدة ومفرداته الحديثة، وسيطرت على العقل العربي في السنوات الأخيرة المسائل الكبرى المتصلة بالطاقة والمياه وبتغير المناخ وبالتلوث البيئي، فضلاً عن أزمات نقص الغذاء وندرة الموارد، وتحولت دول عربية كثيرة من اقتصادات الريع بالاعتماد على عنصر واحد لكي تملك درجة من التعددية تجعل من دولة مثل السعودية دولة سياحية بامتياز ومن مصر دولة حديثة بتقنيات عصرية وشبكة طرق لم تعرف لها من قبل مثيلاً، إذاً فنحن أمام تطور جديد يمكن القياس به على معظم الدول العربية الأخرى بغير استثناء، لكن تبقى الإرادة السياسية للنظم العربية القائمة في قدرتها على استيعاب ما يجري واستشراف المستقبل واستلهام مقومات التطور بالعمل الجاد والتكنولوجيا الحديثة وتبادل الخبرات أخذاً وعطاءً مع العالم المتقدم في عصرنا.
رابعاً: قضى العرب قروناً عدة ينظّرون ويتحدثون ويثرثرون وتكون المحصلة شعارات زاعقة ونداءات عفوية حادة لا تغني ولا تسمن من جوع، فكان لا بد من ترشيد ذلك السلوك وتحويله إلى إحساس حقيقي بالتطور والتقدم والرغبة في ارتياد المستقبل بثبات ويقين وإرادة، فنحن نسعى اليوم إلى تغيير الهياكل الاقتصادية للدول العربية وتنشيط تجارتها الدولية ورفع قيمة عملتها المحلية وتعزيز أسباب النمو الاقتصادي المدروس الذي يقوم على قاعدة ديمقراطية رشيدة يلتزم بها الجميع، متماشين مع روح العصر وأدبياته الثقافية وأساليبه الاقتصادية حتى نقف على أعتاب تحول حقيقي لا رجعة فيه.
خامساً: كلما تحدثنا عن عوامل النمو في الاقتصادات العربية والتطوير في هياكلها الأساسية فإننا نرتطم دائماً بقضية معقدة مؤداها أن الصراع العربي- الإسرائيلي يمثل القضية الجوهرية الأولى للعرب بحيث يتعاملون مع المستجدات فيها وفقاً لكل ظرف على حدة، إذ إن الصراع العربي- الإسرائيلي استنزف مقومات عدد من الدول العربية وجعل الإنفاق على التسليح تسريباً لجزء كبير من موارد هذه الأمة، فضلاً عن التأثير السلبي في الروح الديمقراطية وانعدام الاقتران بين الديمقراطية والتنمية، بما يعني أن الدول العربية تدخل حالياً مرحلة الإفاقة وعودة الوعي الكامل بحيث تستطيع أن تحدد ملامح المستقبل أمامها وأن تتلمس خطوات جادة في التغيير نحو المستقبل، ولا شك في أن الصراع العربي- الإسرائيلي تحول في السنوات الأخيرة من محاولة حله إلى مواصلة إدارته، إذ إن ما يجري حالياً هو إدارة للصراع وليس حلاً له ولا يمكن التنبؤ بإمكانية الوصول إلى تسوية ذات مقومات شاملة وعادلة تعطي للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة في وطنه على أرضه وعاصمة لدولته.