بقلم - مصطفي الفقي
تأرجحت علاقة الأستاذ هيكل بالرئيس مبارك صعودًا وهبوطًا على امتداد ثلاثين عامًا، هي فترة حكم الرئيس، وهى أيضًا الفترة الخصبة للإنتاج الفكرى للأستاذ هيكل وكتاباته ذائعة الصيت في الداخل والخارج، فلم يكن الأستاذ مستريحًا للعلاقة بين مبارك والكاتب الصحفى الراحل موسى صبرى، خصوصًا أن هيكل تعود أن يكون هو الكاتب الأوحد على المسرح في عصر عبدالناصر والفترة الأولى من عصر السادات.
حتى أحاله الأخير إلى المدعى الاشتراكى، بعد أن عزله من رئاسة تحرير «الأهرام»، فاستقال هيكل من منصبه لكى يتفرغ لأكثر سنوات عمره خصوبة وعطاءً وتألقًا فكريًّا وتوهجًا إعلاميًّا، وأصبح الاسم الأعلى في سماء السياسة والكتابة داخل مصر وخارجها، وكانت له محاضرة شهيرة في الجامعة الأمريكية في مطلع هذا القرن تحدث فيها عن نظام شاخ وترهلت شخوصه على مقاعدها.
وكانت تلك في ظنى هي أقوى ضربة لنظام الرئيس مبارك، وأكثرها صراحة في انتقاد عصره، وذات يوم طلب منى الأستاذ هيكل أن أستأذن الرئيس الراحل لكى يطّلع الأستاذ على الرسائل المتبادلة بين الرئيسين مبارك وصدام حسين في الفترة ما بين غزو العراق للكويت حتى تحريرها بتحالف عربى دولى شاركت فيه مصر وسوريا في سابقة قومية فريدة، وأتذكر وقتها أن الأستاذ تصفح تلك الرسائل في دقائق معدودة أمامى ثم أعادها لى قائلًا إنها لم تضف جديدًا لما يعرف، ولقد كان الرئيس مبارك حريصًا هو الآخر على أن يطلع الأستاذ على وجهة النظر المصرية قبل أن يعد كتابه عن تلك الفترة.
خصوصًا أن الملك الراحل حسين بن طلال كان قد استقبل الأستاذ هيكل قبلها لذات الغرض، وأتذكر محادثاتى معه ونحن نجلس في حديقة منزله ببرقاش عندما كانت بعض تلميحاته في الحديث تمس النظام القائم وقتها، وأنا أبتسم حرجًا بحكم موقعى الوظيفى، فإذا به يقول لى: يا دكتور التسجيلات حاليًا ليست صوتية فقط ولكنها صوت وصورة، ثم ينفجر ضاحكًا!، ومازلت أتذكر أن رحلته الآسيوية كانت رحلة هائلة بمعنى الكلمة، إذ استقبله في كل دولة رئيسها ووزير خارجيتها وكبار الشخصيات فيها، وقد رافقه فيها صديق محترم، هو الدبلوماسى، الإعلامى، الأستاذ جميل مطر، الذي التقيته منذ أيام في احتفال حصوله على جائزة مصطفى وعلى أمين للصحافة، وهو أمر تندر به الكاتب اللبنانى الكبير سمير عطاالله، إذ كيف يتلقى تلميذ هيكل جائزة مصطفى أمين!.
وقد غاب عن الجميع أن جميل مطر قد حصل عليها لكفاءته المهنية ومجمل كتاباته الصحفية دون تعبير عن اتجاه سياسى أو موقف خاص في الماضى أو الحاضر، ولقد كان يلفت نظرى دائمًا اللياقة البدنية والذهنية للأستاذ حتى في سنوات عمره الأخيرة، خصوصًا في حواراته مع الإعلامية الشهيرة لميس الحديدى، فهو الكاتب الصحفى المخضرم الذي تمتع بصلات قوية بالعصر الملكى وكان صديقًا لأحمد نجيب الهلالى باشا، رئيس الوزراء قبل ثورة يوليو 1952، وهو هيكل الذي استقبله رؤساء مصر محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات وحسنى مبارك، بل المشير طنطاوى، ثم محمد مرسى والمستشار عدلى منصور حتى وصل في لقاءاته إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، خصوصًا أن الإعجاب بينهما كان متبادلًا في تلك الفترة، وقد تابعت الأستاذ هيكل في حوار تليفونى مع الرئيس مبارك عندما كان نجل الرئيس، الأستاذ علاء، يستعد لجراحة في العمود الفقرى كانت قد أُجريت قبلها لابن الأستاذ، وأعنى به الدكتور أحمد هيكل، وكان الرئيس يستمع إلى كلمات مطمئنة من الأستاذ عن تلك الجراحة في حديث أبوى دافئ بين الرجلين.
ولن أنسى ما حييت أننى قد حظيت بشرف تاريخى أعتز به دائمًا عندما كنا نجلس في مسجد الحسين، رضى الله عنه، انتظارًا لأداء الصلاة على جثمان الراحل الكبير حسب وصيته، حيث تردد أنه طلب أن يُغطَّى بملاءة بيضاء فور رحيله، وفوقها وردة حمراء، مع ضوء خافت، وقراءة هادئة للقرآن الكريم من الصوت الشجىّ للشيخ محمد رفعت. أعود وأقول إنه في ذلك اليوم انتدب الحاضرون في المسجد، ومنهم أفراد الأسرة، اثنين للحديث عن الراحل الكبير أمام محراب المسجد العتيق، وكان الاثنان هما الدكتور عبدالله النجار، الأستاذ المعروف بجامعة الأزهر، وأنا نيابة عن أجيال المثقفين المصريين الذين احترموا هيكل وأحبوه مهما اختلفوا معه.
ويومها أُسدل الستار على الحياة الجسدية لهيكل وتواصلت قيمته الفكرية وتزايدت مكانته تألقًا، ولعلى أعتز شخصيًّا أننى نجحت في إقناع أسرته الكريمة باقتناء مكتبته العامرة ووثائقه الفريدة في مكتبة الإسكندرية لتظل شاهدة على مكانة الرجل وقيمته في عصره.. رحم الله الكاتب الكبير، الذي قال مأثورته الخالدة لمَن حوله قبيل وفاته: (لا تُعانِدوا الطبيعة، فلكل أجَلٍ كتاب، والموت نهاية محتومة لكل البشر)!.