بقلم - مصطفي الفقي
عندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وظهرت مبادئ الرئيس الأمريكى ويلسون الشهيرة كان التفكير قد استقر على ضرورة وجود تنظيمٍ دولى جامع مانع يؤدى إلى تلافى الحروب وحل الصراعات، وبالفعل قامت عصبة الأمم فى مقرها بمدينة جنيف وسط أوروبا لأن الحرب العالمية الأولى كانت حربًا أوروبية الطابع وكان من الطبيعى أن يجرى البحث عن المقر تحت مظلة الوضع الأوروبى الجديد، ثم تنامت حركة الحزب القومى الألمانى وبرزت أفكار «الرايخ الثالث» وأطلت ألمانيا بشراسة على المسرح الأوروبى حولها، ثم تصاعدت بوادر الفكر النازى منذ وصول أدولف هتلر إلى قمة السلطة وامتدت الحرب لأكثر من أربع سنوات حتى جاءت نهايتها مع هزيمة ألمانيا وسقوط المحور لصالح انتصار الحلفاء، ودست الولايات المتحدة أنفها بشدة فى العالم القديم وعبّرت عن دورها فى إنهاء الحرب بقنبلتى هيروشيما ونجازاكى وأكدت الكتابات الجديدة بين الحلفاء على ضرورة الوعى بالأسباب الحقيقية للحروب التى لم تعد صدامًا بين الجيوش ولا تنافسًا بين العروش ولكنها تأتى نتيجة تلقائية للأزمات الاقتصادية والاحتكاكات الحدودية التى عبر عنها الرايخ الثالث بمفهوم (المجال الحيوى) كألمانيا النازية، وخرج خبراء العلاقات الدولية وكبار الدبلوماسيين فى الغرب والشرق معًا بأن الحل الأمثل هو البحث فى الأسباب الاقتصادية والثقافية والاجتماعية للحروب والنزاعات المسلحة، فظهر مشروع «مارشال» لإنعاش اقتصاد أوروبا والبحث فى الجانب الاقتصادى وراء الحروب والدوافع المؤدية لها، عندئذٍ برز نموذج الأمم المتحدة وريثًا لعصبة الأمم وبديلاً لها مع الإضافات التنموية والثقافية التى لحقت بها إلى جانب دراسة تأثير الأزمات الاقتصادية على العلاقات الدولية، وكان من الطبيعى أن تسعى الولايات المتحدة الأمريكية قائدة الانتصار الغربى للحلفاء فى أن يكون لها علامة على التنظيم الجديد فعبرت به المحيط من الساحل الأوروبى الغربى إلى الساحل الأمريكى الشرقى، وكان ميلاد الأمم المتحدة إيذانًا بتحول كبير فى العلاقات الدولية المعاصرة وأصبح مقرها الأساسى هو مدينة نيويورك بينما تتركز مؤسساتها الاقتصادية فى مدينة جنيف وتوجد مؤسساتها الاجتماعية والإنسانية فى مدينة فيينا إلى جانب توزيع مقارها المختلفة فى عواصم العالم اعترافًا بعالمية الجهود من أجل التنمية والتقدم، ومضى النظام الجديد متخذًا صورة حلف المنتصرين لذلك ظهر التنظيم الدولى المعيب الذى يعطى حق الفيتو للدول المنتصرة دون أن يكون هناك ضمان لباقى دول العالم حتى لو حازت الأغلبية الكاملة للأمم المتحدة الجديدة، فالعبرة فيما يراه مجلس الأمن من خلال أعضائه الدائمين، وفى ظنى أن هذه النقطة بالذات كانت ولا تزال كارثية بالمعنى الشامل لأنها تعنى حرمان الأغلب الأعم من دول العالم من حق تدعيم الشرعية الدولية واحترام القانون الإنسانى على الأقل! ولقد توافد على مقعد الأمين العام عدد من الشخصيات الموزعين على قارات العالم تعبيرًا عن أممية التنظيم الجديد والقدرة على انتشاره، فكان الأمين العام الأول هو تريجفه لى من النرويج والثانى كان داج همرشولد السويدى الذى لقى مصرعه فى حادث طائرة أثناء جولة لمتابعة أزمة الكونغو وقد يكون الحادث مدبرًا لأن همرشولد كان يملك تفكيرًا استباقيًا ويتعاطف مع قضايا العالم الثالث وظروف المستعمرات الباقية، وبرحيله جاء الآسيوى يو ثانت من دولة بورما (مينمار حاليًا) وهو الذى تلقى خطاب مصر الرسمى قبيل حرب الأيام الستة كما يسميها الإسرائيليون إذ دعت فيها مصر إلى سحب القوات الدولية تمهيدًا للأعمال القتالية وتحضيرًا للحرب القادمة وتوقعًا للعدوان الإسرائيلى، وقد تلاه النمساوى كورت فالدهايم الذى خاض فترتين فى موقعه ثم جرى (تجريسه) ظلمًا بأنه خدم فى جيش النازى أو تعاون معه، وقد تولى رئاسة جمهورية بلاده بعد أن فرغ من منصبه الدولى وربطتنى به شخصيًا علاقة طيبة بل ووثيقة عندما كنت سفيرًا لمصر فى فيينا وكان هو شخصية مهمة فى تاريخ بلاده وألزمه التقاعد أن يقضى مع أصدقائه معظم الأمسيات فى مقهى موزارت وسط المدينة، ولقد طلب منى أن أكتب له مقدمة الطبعة العربية لكتابه الشهير بعنوان الرد الذى يفند فيه الاتهامات المزعومة ضده، ولقد كان صديقًا لمصر والعرب وحمل عليه الإسرائيليون بقسوة، وقد قال لى شخصيًا إن الفضل فى تعيينه أمينًا عامًا للأمم المتحدة يرجع إلى وزير خارجية مصر القدير إسماعيل فهمى، وقد تلاه السيد دى كوييار من دولة بيرو من أمريكا اللاتينية حتى جاء المصرى الإفريقى العربى بطرس بطرس غالى ليتولى المنصب باقتدار واستقلالية حتى دفع الثمن بسبب نشره لتقرير الأمم المتحدة عن مذبحة قانا ضد إرادة مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية فى ذلك الوقت، حيث فشلت محاولات الإغراء مع ذلك المصرى الصعيدى الذى لا يحيد عن مبادئه وضحى بمنصبه الرفيع من أجل ما يعتقده وما يؤمن به، وقد تولى بطرس غالى منصبه بأحد عشر صوتًا مؤيدًا له بينما خسر المنصب بأربعة عشر صوتًا مؤيدة له أيضًا مع استثناء وحيد هو استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق الفيتو ضده، تلاه إفريقى آخر من دولة غانا هو كوفى عنان إلى أن آلت مسئولية ذلك المنصب الرفيع إلى السيد بان كى مون من كوريا الجنوبية، حتى وصل إلى المنصب الرفيع شخصية رائعة بكل المقاييس وهى أنطونيو جوتيريش الذى كان رئيسًا لوزراء البرتغال، ويكفى أن نتأمل خطابيه أمام معبر رفح خلال أزمة الحرب على غزة الحالية وهو يدافع بشرف عن الحق ولا يخضع للضغوط والافتراءات. تلك هى رحلتنا السريعة مع أمناء الأمم المتحدة فى العقود الثمانية الأخيرة، رحم الله الراحلين وأضاء الطريق أمام الأحياء منهم!