اعترافات ومراجعات 40 من تراث العدالة فى مصر

اعترافات ومراجعات (40).. من تراث العدالة فى مصر

اعترافات ومراجعات (40).. من تراث العدالة فى مصر

 صوت الإمارات -

اعترافات ومراجعات 40 من تراث العدالة فى مصر

بقلم:مصطفى الفقي

عندما علمت برحيل المستشار محمد دكرورى- وهو أحد رجال القضاء الكبار، وكان هو الممثل الشخصى لرئيس الجمهورية قضائيًا فى عصر الرئيس الراحل مبارك- تذكرت تلك الشخصية المهذبة الطيبة التى تثير الاحترام وتدعو إلى الإعجاب، ثم تذكرت قصة رواها لى- رحمه الله- فى أحد لقاءاتنا، إذ قال لى إنه عندما كان معارًا إلى دولة ليبيا كان يأتيه زميل له معار فى مدينة بعيدة يتناول الغداء معه ثم يعود إلى مقر المحكمة المنتدب إليها قاطعًا مئات الكيلومترات بالسيارة.

وبعد عدة مرات سأل المستشار الدكرورى زميله عن سر حضوره أسبوعيًا وقطع هذه المسافة الكبيرة لزيارته، فقال له: إننى أحضر إليك كصديق لتناول الطعام الذى يحتوى على اللحوم التى أفضلها لأن فى مدينتى الصغيرة قصّابًا واحدًا (جزارًا واحدًا)، وله قضية منظورة أمامى وأخشى إن تعاملت معه فى فترة نظر القضية أن يشوب الأمر شبهة انحيازٍ له.

وتذكرت أيضًا من حديث المستشار الراحل أن أحد قضاة مصر المحترمين كان قد استمع إلى ملاحظة سلبية بسيطة من رئيسه فى السلك القضائى فلم يعلق بكلمة واحدة، ولكنه برح مكتب رئيسه ليترك استقالته لدى سكرتير ذلك الرئيس باعتباره رئيس محكمة النقض، ونتذكر أيضًا أن أحد القضاة المصريين العظام قد هدد باستقالته عندما جرى امتداح أحد أحكامه التى أصدرها.

وقال قولته الشهيرة: إن من يملك المدح يملك الذم أيضًا، هكذا كانت أخلاقيات رجال القضاء فى تاريخ مصر المعاصر، ويُروى أن عبدالفتاح الطويل باشا كان فى طريقه إلى مدينة دمنهور ليترافع فى إحدى القضايا، باعتباره محاميًا شهيرًا ووزير عدل سابقًا، وعندما عرف القاضى رئيس الجلسة بوجود وزيره السابق أبدل رول الجلسة لكى يقدم عبدالفتاح الطويل فى البداية احترامًا له وتكريمًا.

وعندما عاد عبدالفتاح باشا إلى القاهرة اتصل بزميله وزير العدل- وقتها- وطلب منه توقيع عقوبة على رئيس محكمة دمنهور الذى جامله بأسبقية فى نظر القضية التى يترافع فيها الطويل باشا قائلًا لزميله الوزير: إن هذا يتناقض مع تكافؤ الفرص والمساواة أمام العدالة العمياء التى يُرمز لها دائمًا بسيدة معصوبة العينين، ولن أنسى أبدًا إعجابى الشديد بالمستشار المتألق وجدى عبدالصمد ولغته العربية الرفيعة وهو يقول للرئيس مبارك، الذى كان يزور محكمة النقض وسط حشد من كبار القضاة: «باسم أصحاب المقام العالى والمكانة الرفيعة، فإننى أقول لك كما قلت لسلفك من قبل إن قانون الطوارئ سُبة أربأ بك عنها».

ومضى فى خطابه بلغة قانونية رصينة متحدثًا عن العلاقة بين القانون والسياسة وكأنها معزوفة موسيقية نسمعها لأول مرة فتثير لدى المستمع الاحترام الشديد للمتحدث والتقدير الكبير لنزاهته وفصاحته. وكان الرئيس الراحل مبارك ينظر إلى القضاة بإكبارٍ شديد، وذات مرة لاحظ البعض أن رئيس محكمة النقض يجلس فى الصف الثانى وليس فى الصف الأول مع رئيس الحكومة ورئيس البرلمان رغم رسوخ مبدأ الندية بين السلطات الثلاث.

ويومها رد وجدى عبدالصمد على تلك الملاحظة بكلمة تاريخية قال فيها: إن الأقدمية تبدأ من المقعد الذى يجلس فيه أعلى ممثل للسلطة القضائية، مع الأخذ فى الاعتبار بالطبع أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية، وهو أيضًا الرئيس الأعلى للمجالس فى القوات المسلحة والشرطة والقضاء وغيرها من مظاهر السيادة فى الدولة.

ويطفو على ذاكرتى الآن ما حدث فى مناسبة لأحد الاحتفالات بعيد الشرطة فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، عندما نظر الرئيس مبارك من المنصة ورأى أن سكرتير الرئيس وبعض أعضاء مكتبه يحتلون المقاعد الأمامية فى القاعة، فطلب فورًا أن يستبدلوا مقاعدهم مع كبار القضاة لأن لهم الأسبقية فى معظم المناسبات التى يحضرها رئيس الجمهورية.

وإذا كنا نبحث عن تراث العدالة فى مصر فلماذا نذهب بعيدًا وأمامنا نموذج واضح وهو المستشار الجليل رئيس الجمهورية المؤقت عدلى منصور ودوره الانتقالى، عندما تولى موقعه فى عام حاسم خرجت به مصر من نفق مظلم حتى سلم المستشار عدلى منصور الأمانة كاملة إلى قائد التحول ورئيس الجمهورية الحالى الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسى الذى يحمل للقضاء احترامًا وتقديرًا ولا يتدخل فى شؤونه أبدًا.

ولقد سعدت شخصيًا بإلقاء محاضرات فى نادى القضاة وأدركت أنهم رصيد مصر فى محراب العدالة، ويكفى أن نتذكر أن كثيرًا من الدول العربية الشقيقة قد أخذت عن نظام القضاء المصرى جزءًا كبيرًا من تقاليدها الحالية وانتدبت للعمل فيها خيرة رموز القضاء المصرى فى كل العصور باعتبارهم قنوات التواصل بين مدرسة القانون المصرية التى عرفت عبدالعزيز فهمى وعبدالرزاق السنهورى.

ولقد تذكرت قضية (طابا) التى أصدرت فيها محكمة العدل الدولية حكمها بالعودة إلى أحضان الدولة الأم مصر بجهد كبير من أساتذة القانون وكبار الدبلوماسيين وعلماء الجغرافيا والقيادات العسكرية المصرية فى المراحل التاريخية المختلفة؛ لتحديد شخصية طابا والمواقع المعروفة التى تحدد موقعها.

وأنا حاليًا أكتب هذا المقال بينما أستمع للحكم المبدئى فى الجانب الشكلى للشكوى التى تبنتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد جريمة الإبادة الجماعية التى تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى الأعزل، ولقد شعرت أن العدالة كلٌّ لا يتجزأ، وأن اهتزاز الميزان لديها يعنى مباشرة انهيار منظومة القيم ومصفوفة التقاليد التى تشكل فى النهاية ناموس البشرية ونهج العدالة وفلسفة الوجود.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

اعترافات ومراجعات 40 من تراث العدالة فى مصر اعترافات ومراجعات 40 من تراث العدالة فى مصر



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 17:40 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 19:20 2020 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العذراء الأحد 31 تشرين أول / أكتوبر 2020

GMT 15:06 2020 الإثنين ,17 آب / أغسطس

طريقة تحضير ستيك لحم الغنم مع التفاح الحار

GMT 20:28 2018 الأربعاء ,24 تشرين الأول / أكتوبر

غادة عادل تنشر صورتها مع زميلاتها في إحدى صالات الجيم

GMT 22:38 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

الغساني يبدي سعادته بالأداء الذي يقدمه مع الوحدة

GMT 16:15 2015 الأربعاء ,04 شباط / فبراير

"بي بي سي" تطلق موقعًا جديدًا على الإنترنت

GMT 21:06 2021 الإثنين ,26 إبريل / نيسان

طقس غائم وفرصة سقوط أمطار خلال الأيام المقبلة

GMT 20:01 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 06:47 2021 الثلاثاء ,26 كانون الثاني / يناير

ابرز النصائح والطرق لتنظيف السيراميك الجديد لمنزل معاصر

GMT 08:14 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

"أدهم صقر" يحصد برونزية كأس العالم للخيل في باريس

GMT 09:42 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

"بيوتي سنتر" مسلسل يجمع شباب مصر والسعودية

GMT 22:57 2019 الأربعاء ,06 آذار/ مارس

بن راشد يعتمد 5.8 مليار درهم لمشاريع الكهرباء
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates