بقلم : مصطفى الفقي
أعرفه منذ سنوات طويلة، خصوصًا عندما كان سفيرًا لمصر لدى منظمة اليونسكو بمقرها بباريس، وكنت أشعر دائمًا أنه كالراهب الذى نذر حياته لأهدافٍ ترتبط بالصالح العام وتقدم البحث العلمى، فهو يمثل قنطرةً من طرازٍ خاص بين الفكر المعاصر والعلم الحديث، إنه أستاذ الهندسة المرموق، الذى تربّت على يديه أجيال وصلوا إلى مواقع عليا فى حياتهم العلمية والعملية، فهو الذى أحال المفاهيم النظرية إلى دلالاتٍ رقمية، ونجح فى تحويل التراث من مادة جافة إلى كيان مقبول لدى كل الأعمار والتخصصات.
ارتبط اسمه هو ومجموعة من تلاميذه، أتذكر من بينهم زميلتى فى الدراسة د. إجلال بهجت، قرينة صديق عمرى، أستاذ أساتذة علم السياسة، الدكتور على الدين هلال، فقد تمكن الدكتور فتحى صالح ورفاقه من رصد عدد من الظواهر الإنسانية والرموز البشرية فى سلسلة رائعة من الإصدارات فى العقود الأخيرة، وتمكنوا من إثراء المكتبة المكتوبة والرقمية بزخمٍ هائل من المطبوعات الفريدة التى تزدان بها مكتبة الإسكندرية بمنافذ البيع لديها فى أنحاء البلاد، فضلًا عن أننى أعتبر الدكتور فتحى صالح الأب الشرعى لسينما التراث ثلاثية الأبعاد أو ما نسميه «الكاتشوراما»، التى شهدت شخصيًا أول تطبيق لها فى مدينة الأقصر منذ ما يزيد على خمسة عشر عامًا، بدعوة من الصديق العزيز، الدكتور سمير فرج، الذى كان أول محافظ لتلك المدينة الفريدة فى عالمنا المعاصر، ويومها قرع اسم فتحى صالح مسامعى بصورةٍ متميزة.
وأذكر أننى قابلت الدكتور فتحى صالح بعد ذلك ذات مساء فى دار الأوبرا المصرية أثناء أحد الاحتفالات، وكان ذلك فى عصر الرئيس الراحل مبارك، وقلت له: إنك المرشح الأمثل لليونسكو فى المرة القادمة من وجهة نظرى، خصوصًا بعد أن تآمرت بعض الدول على مرشحنا المرموق، الوزير الفنان فاروق حسنى، وهو ما تكرر بعد ذلك أيضًا مع زميلتى د. مشيرة خطاب، الوزيرة السابقة، وأتذكر أيضًا أن الدكتور فتحى صالح قال لى يومها: تذكر أننى فى الثامنة والسبعين من العمر، ولا أعرف مدى ملاءمة هذه السن لوظيفة دولية كبرى.
ولقد حرصت منذ بدأت عملى مديرًا لمكتبة الإسكندرية على أن أعامل د. فتحى صالح بما يليق بمقامه الرفيع حافظًا للتراث وحارسًا للإرث الإنسانى فى مصر، كما حرصت على أن يحتفظ الرجل بالمكانة التى تليق به حتى جرى قطار الزمان، ورأى الرجل أن ينصرف عن العمل اليومى طواعية، ولكننى طالبته بألّا يغيب عنَّا بعلمه ونصائحه، خصوصًا أننى أعلم أن من بين تلاميذه رؤساء حكومات مثل د. أحمد نظيف، ووزراء مثل عمرو طلعت، وزير الاتصالات الحالى، وقد نال الدكتور فتحى صالح التكريم الذى يستحقه فى الداخل والخارج، ورشحته مكتبة الإسكندرية لجائزة النيل العليا للعلوم الاجتماعية لأنه جمع بين العلم والفكر، وبين التاريخ والحضارة، بين البحث العلمى والتأمل النظرى، فهو حفيد لأحد علماء الدين الكبار، والذى كان معروفًا بفهمه لوسطية الإسلام وحرصه على الاعتدال الذى تدعو إليه ديانات السماء.
وما أكثر الكتب التى رصدت تراثنا الثقافى والفكرى وكانت فى مجملها نتاجًا لعقل ذلك الأستاذ الجامعى الذى يعرف قدر المعرفة ويسعى وراءها دائمًا، وقد اقترن الدكتور فتحى صالح بإحدى زميلاتى فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكان والدها وزيرًا مرموقًا فى زمانه، وهكذا نجد أننا أمام نموذج يستحق الاحترام والتكريم، خصوصًا أن الرجل زاهد فى المناصب غير متكالب على المواقع لأنه يعرف نفسه حق المعرفة، ويدرك أن أعمال الإنسان هى التى تتحدث عنه، تحية للدكتور فتحى صالح ولجيله من العلماء الذين أدركوا مبكرًا قدر الثقافة ومكانة المثقفين.