بقلم - عبدالحسين شعبان
كان نصف عقله يعيش في المستقبل” هذا ما قاله الروائي الروسي مكسيم غوركي عن زعيم ثورة أكتوبر الاشتراكية فلاديمير إليتش لينين، وهو ينطبق إلى حدود غير قليلة على مفكرنا خير الدين حسيب، فعلى الرغم من إنجازه مشاريع باذخة فكرية وثقافية وأكاديمية، ليس من السهولة بمكان أن يسجّل أحدها في رصيد شخص واحد فما بالك حين تجتمع فيه، إلّا أنّ ذلك كان نصف ما يفكّر به حسيب، بل ويخطّط له حتى أيامه الأخيرة، فقد كانت أحلامه تكبر مع مرور الأيام وتتّسع ، وحسب بن عربي “كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة” وكلّما كان منجزه الفعلي يتحقق ويتعمّق، كان ينفتح على مشاريع عمل جديدة وخطط مستقبلية بعيدة المدى، جامعاً على نحو دقيق بين الفكر والممارسة (البراكسيس)، في سقف بلا حدود ينطلق من “المشروع النهضوي العربي”، بعناوينه الستة الأساسية، والذي رعاه حتى صار عوده صلباً، وظلّ على مدى عقدين من الزمان يُسقيه من ماء روحه، في نقاش مفتوح تطويراً وتعديلاً وتحسيناً وإضافةً وحذفاً وتصويباً، بالتعاون مع نخبة لامعة من المفكرين والمثقفين العرب وكوكبة متميّزة من المعنيين بالدراسات الإستراتيجية المستقبلية، وهي ميزة لمفكرنا لا يضاهيه فيها أحد.
واحد لكنّه مجموع
اجتمعت في شخص خير الدين حسيب الثقافة الاقتصادية الراقية من خلال دراساته واختصاصاته، ولا سيّما في “المالية العامة” منذ أن تخرّج من جامعة كامبريدج، وثقافة سياسية حالمة أساسها “العروبة الثقافية” التي تقوم على الإيمان بنهضة الأمّة العربية ووحدتها وفي القلب من ذلك تحرير فلسطين، خصوصاً وقد تعزّزت تلك الروافد في لحظة توّهج وازدهار لحركة التحرر الوطني في الخمسينات، فضلاً عن تأثره بالرئيس جمال عبد الناصر الذي جمعته معه صداقة حميمة في الستينات من القرن الماضي، ويُضاف إلى هذا الهارموني صرامةً أكاديمية وبُعد نظر ورؤية للمستقبل، فضلاً عن شخصية كارزمية إدارية وعملية من الطراز الأول، وذلك في إطار توجّه اكتملت جوانبه بالتدرّج والتطوّر والنقد والنقد الذاتي والمراجعة.
ومن ذلك حاول قراءة الواقع بما هو ممكن وغير ممكن، وفي بعض الأحيان طلب حسيب المستحيل ليقبل بالممكن وفقاً للمثل الفرنسي الذي غالباً ما يردّده المفكّر الماركسي السلوفيني سلافوي جيجك، فكان يسير دائماً عكس اتجاه الريح، وقد كرّس لقضية الوحدة العربية جلّ حياته ووصفها بالقضية الأكثر نُبلاً من قضايا الوجود العربي، وهو ما جعله مهندس فكرة الوحدة العربية بعد رحيل عبد الناصر، وقد بدأ بتحويلها من أماني وأحلام إلى مشاريع عمل مستقبلية، منطلقاً من فشل التجارب الوحدوية وهو ما أفضى به في حوارات خاصة مع كاتب السطور، وليس عبثاً أن يُطلق على المجلة التي أسسها لتكون بإسم مركز دراسات الوحدة العربية الذي أسسّه في العام 1975 اسم “المستقبل العربي” وهي من أكثر المجلات العربية المعمّرة، وقد احتفي بها مؤخراً بصدور العدد 500 منها (أي 500 شهراً)
العروبة والعدالة
جناحان حلّق بهما حسيب خلال مسيرته المتميّزة، أولهما العروبة، وهذه نمت كرابطة من شعور وجداني بالانتماء، فضلاً عن رابطة حضارية وحقوقية، وثانيهما العدالة الإجتماعية، التي تبنّاها خلال زيارته إلى منطقة الأهوار في جنوب العراق تحضيراً لإعداد أطروحته للدكتوراه في بحث ميداني حيث اكتشف البؤس الذي يعيشه أبناء هذه المناطق والتي لا يمكن أن تلتحق بركب الحضارة والتقدّم ومواكبة مناطق البلاد الحضرية دون تحقيق العدالة، ولذلك كانت العدالة ركناً مركزياُ من أركان مشروعه النهضوي.
وستكون المواطنة مثلومة وغير كاملة دون تحقيق العدالة الاجتماعية، وأدرك حسيب لاحقاً أنّ العروبة والعدالة لا يمكن تحقيقهما دون انجاز التحرّر السياسي والاستقلال الاقتصادي، لا سيّما بتحقيق التنمية المستدامة وبتوظيف التراث بما فيه من ايجابيات من أجل الانبعاث الحضاري كي يكون في خدمة المستقبل، وبالطبع فلن يتمّ ذلك إلّا في إطار رضا الناس وعبر قناعاتهم وإرادتهم الحرّة وخياراتهم، بعيداً عن إسقاط الرغبات على الواقع، وهكذا أصبحت الديمقراطية السياسية صنواً لا غنى عنها للديمقراطية الإجتماعية بعد أن كانت مؤجلة في إطار المشروع القومي العربي الهادف والطموح لإنجاز الوحدة العربية، مثلما كانت الديمقراطية خارج دائرة الحضور في المشروع اليساري والماركسي، حيث أكّدت التجربة العملية أنّه لا يمكن تحقيق الاشتراكية دون الديمقراطية.
ومن هذا المنطلق وبعد مرارات وخيبات ووحدات ناقصة ومبتورة ومشوّهة فكّر حسيب أنّ الطريق القويم لتحقيق الوحدة العربية لا بدّ أن يمرّ عبر العلم والعمل الأكاديمي بتحضير دراسات وأبحاث وقراءة للتجارب الوحدوية الكونية، والتدقيق في أسباب الفشل والتراجع والنكوص، فاتّجه لتأسيس مركز متخصص يُعنى بالأساس بدراسات الوحدة العربية ومستقبلها، وأدار هذا المركز بعد أن انفكّ من عمله مع الإسكوا، وقبل ذلك التدريس في جامعة بغداد، ليتفرّغ للمركز الذي حظيَ بمكانة وهيبة كبيرتين عبر اسم الدكتور حسيب والرعيل الأول الذي عمل معه.
وعقد عشرات الندوات والمؤتمرات للغرض ذاته، ونظم العديد من ورش العمل والحلقات النقاشية والجلسات الحوارية لرفد مشروعه التنويري على المستوى العربي وفي دراسة ذلك على مستوى كل بلد عربي، ناهيك عن المشتركات الإنسانية الجامعة والمصائر المشتركة، فضلاً عن الاختلافات الواردة والمحتملة.
إصرار
لم تتوقّف المجلة أو تُغلق أبواب المركز على الرغم من الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت 15 عاماً (1989-1975)، وحتى خلال “الاجتياح الإسرائيلي” للبنان ومحاولة احتلال العاصمة بيروت، العام 1982، استمرّ المركز في عمله والمجلة في الصدور في مطلع كل شهر بالرغم من الظروف التي مرّت بها البلاد، ولم يكن ذلك سوى جزء من صلابة حسيب وجلده وصبره، وتعتبر المجلة الأعمق مستوى والأكثر رصانة بين المجلات الفكرية والأكاديمية العربية، بما فيها تلك التي تصدر بدعم من حكومات.
المشروع النهضوي العربي
ثمّة منجزات كبرى لا يستطيع أحد إلّا الاعتراف بها وبالدور المتميّز الذي لعبه حسيب، فإضافةً إلى إنشاء المركز الذي وضع خططه وبرامجه، بل هو من كان المبادر إلى فكرته، فإنّ إنجاز المشروع النهضوي العربي الذي جمع الأهداف الأساسية للأمة العربية ووضعها في وثيقة متكاملة ومتداخلة سداها ولحمتها الوحدة العربية. وأعتقد أنّ هذا الانجاز يعبّر كما أراده عن لقاء التيارات الثلاث الأساسية: القومية العربية ، واليسارية والماركسية، والإسلامية.
وقد أسّس المؤتمر القومي العربي ليكون الحامل لهذا المشروع الكبير الذي يحتاج إلى تعاون وطني شامل على مستوى كل بلد عربي وعلى المستوى القومي العربي، وأراد لهذا المشروع أن يكون مرجعية فكرية تضمّ الشخصيات المتميزة، وهو ما كان في بداياته، كي لا ينشغل بالهموم اليومية وبعض الصراعات الجانبية التي تحدّ من طموحه.
لقد كان تفكير حسيب أن يكون المؤتمر القومي العربي نواة لما أطلق عليه “الكتلة التاريخية” وهي الفكرة التي سبق أن دعا إليها المفكر الماركسي انطونيو غرامشي، وقد سبق لي أن ناقشت فكرته على صفحات ” مجلة المستقبل العربي – خير الدين حسيب: الرياضة النفسية والمثقف الكوني والكتلة التاريخية – العدد 454 كانون الأول / ديسمبر 2016 ” مفرّقاً بين تحالف سياسي يجمع التيارات الثلاث وبين فكرة الكتلة التاريخية التي قصدها غرامشي، وإن كان هذا التحالف هشّاً وغير مكتمل، وهو تحالف بحاجة إلى المزيد من الحوار والنقاش والتكافؤ، فضلاً عن بحث الإشكاليّات الحقيقية بشفافيّة ومصارحة، وذلك ليكون بمثابة تحالف استراتيجيّ، بعيد المدى. وقد بيّنت التجربة أنّ مجرد الاقتراب أو الابتعاد عن السلطة يدفع هذا الفريق أو ذاك لاتخاذ مواقف لا تتّفق مع جوهر فكرة التحالف، وأوضح دليل على ذلك، محاولة الإخوان المسلمين الانفراد بالسلطة في مصر واضعين برنامج التحالف أو حيثيّات المؤتمر القومي – الإسلامي على الرف.
وإذا كان المؤتمر القومي العربي الذي أسّسه خير الدين حسيب إنجازاً كبيراً، فالأمر بحاجة إلى تعميق مرجعيته الفكرية وتوجّهه المستقبلي البعيد المدى، وتثمير المشروع النهضوي العربي بدراسات وأبحاث للمستجدّات والمتغيّرات، والأمر يشمل أيضاً المؤتمر القومي الإسلامي، وكنت أحبّذ لو أُطلق عليه اسم ” المؤتمر العربي – الإسلامي” لتأكيد علاقة العروبة بالإسلام، وهو جوهر فكرته الأساسية.
الديمقراطية
يمكنني القول أنّ حسيب من أوائل المفكرين العرب الذين طرحوا مسألة الديمقراطية، بل أنّه نظّم ندوة كبيرة في قبرص العام 1983 بعنوان ” أزمة الديمقراطية في الوطن العربي” ولم تكن الديمقراطية حينها مطروحة مثلما هي اليوم، وبالتالي فإنّ فكره المستقبلي كان يتطّلع أبعد مما يرى الكثيرون، وقد قدّم يومها الطيب الذكر حسين جميل بحثاً عن “حقوق الانسان في الوطن العربي” ولم تكن تلك مسألة مطروحة أيضاً مثلما هي عليها اليوم، وعلى هامش المؤتمر تأسست “المنظمة العربية لحقوق الانسان” العام 1983 ولم يكن أيّ بلد عربي يسمح بالترخيص لها للعمل الشرعي والقانوني، وإن ظلّت في القاهرة إلى العام 2000 موجودة فعلياّ de facto لحين الاعتراف بها قانونيّاً de jure والتوقيع معها على بروتوكول تعاون من جانب وزارة الخارجية المصرية.
وأسسّ أيضاً “المنظمة العربية للترجمة” و “المنظمة العربية لمكافحة الفساد” و “مخيّم الشباب العربي”، ولم يبخل في دعم منظمات عربية عديدة تُمثّل العمل العربي الوحدوي المشترك عبر المؤسسة الثقافية والصندوق العربي، وهذه كلّها من بنات أفكار خير الدين حسيب. كما دعم تأسيس منظمات عديدة مثل “الجمعية العربية للعلوم السياسية” و “الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية” و “الجمعية العربية لعلم الاجتماع”. وبالطبع فإنّ هذه المؤسسات جميعها وجميع مؤسسات العمل العربي تحتاج إلى تعميق وتعزيز الديمقراطية داخلها أيضا، والأمر بحاجة إلى التربية على الديمقراطية، وتأكيد قبول التنوّع والتعدديّة والحق في الاختلاف.
على اللائحة الصهونية السوداء
لجميع الأسباب المذكورة، كثيراً ما تكرّر اسم حسيب في تقارير دولية واستخبارية إمبريالية وصهيونية، بصفته الأب الروحي للقومية العربية والمحرك الأساسي للفعاليات والأنشطة المناهضة لهما، إضافة إلى ربط بلدان المشرق العربي ببلدان المغرب العربي، ومن أقصى المغرب في موريتانيا إلى أقصى بلدان الخليج كان العالم العربي شغله الشاغل، وحاول أن يكون سلاحه الكتاب والكلمة معرّفاً العالم بواقعنا العربي، وعالمنا العربي بمكانته العالمية، خصوصاً حين تتوّحد بلدانه، ويذكر الرئيس اليمني الأسبق علي ناصر محمد أنّ حسيب كان يتردّد على عدن لتقديم النصح والمشورة لجمهورية اليمن الديمقراطية، وهي التي كانت محطّ رعايته كرجل قومي عربي واقتصادي كبير، مثلما حضر قبله إلى عدن الخبير الاقتصادي محمد سلمان حسن الذي ساهم في وضع قوانين التأميم في عدن بما فيها لمصفاة عدن. وكان حسيب وحسن من الخبراء العراقيين الذين ساعدوا اليمن في المجال الاقتصادي.
لا أنسى كيف استقبلني الموريتانيون بالترحاب لمعرفتهم علاقتي بخير الدين حسيب الذي بنى لهم صرحاً ثقافيّاً وكان يزوّدهم لسنوات طويلة بمطبوعات المركز مجاناً. مثلما كان يرفد الجامعات العراقية بإصدارات المركز ومجلته مجاناً، خلال فترة الحصار الدولي الجائر على العراق 1991-2003، وقد نظّم أكثر من مؤتمر ضدّ الحصار، وكان أحدها في لندن 1998 قدّمتُ فيه بحثاً بعنوان “الحصار الدولي وتشريع القسوة” وكان من تحظير الصديق ضياء الفلكي.
النفط
لم يسلم حسيب من العداء من جانب الجهات الصهيونية والإمبريالية وذلك بسبب مواقفه النفطية ولا سيّما من مشروع اتفاقية ايراب مع فرنسا العام 1967، وقد لعب دوراً مهماً في تأسيس “شركة النفط الوطنية” العام 1964 وأصبح في السنوات الأخيرة أكثر قناعةً بأن النفط هو محور الصراع الإستراتيجي السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني في المنطقة بما فيه “الصراع العربي – الصهيوني” والموقف من القضية الفلسطينية، وتأكد له أنّ اقتراب أي دولة أو نظام حكم منه يعني الدخول في معركة مكشوفة أو مستترة مع الإمبريالية وشركاتها الاحتكارية العملاقة، والتي هي “دولة داخل دولة” كما يُقال.
وقد ردّد على مسامعي أكثر من مرة، إنّ ما حصل للزعيم عبد الكريم قاسم ونظامه الوطني هو بسبب القانون رقم 80 العام 1961 الذي استعاد 99.5% من الأراضي العراقية من أيدي الشركات الاحتكارية، مثلما كان أحد أسباب احتلال العراق والقضاء على نظامه هو النفط أيضاً، فلم يغفر له الإمبرياليون خطوته الراديكالية الوطنية بتأميم النفط العام 1972، ووجدوها فرصة ثمينة إثر الخطأ الإستراتيجي بمغامرة اجتياح الكويت العام 1990.
الطائفية
هناك من ينسب تهمة الطائفية للدكتور حسيب، بل يحاول إلصاقها به، لا سيّما لربط ذلك ببعض توجهات الرئيس عبد السلام محمد عارف، ولكنني أقولها للتاريخ أنني لم ألمس لا من قريب ولا من بعيد أي توّجه طائفي لديه على الإطلاق لا في السابق ولا في الحاضر، بل إنّه كان مترفّعاً عن مثل هذه الأمور، ويعتبر الاقتراب منها مساسٌ بثوابت الأمّة، وهو ذاته يعتبر الرئيس عبد السلام محمد عارف في بعض تصرفاته ميّالاً للطائفية، وهو ما سبق أن ذكره وما دونته عنه في حواراتي المطوّلة معه، المنقطعة والمتصلة، منذ سنوات.
ودليلي على ذلك، موقفه من إيران التي لا يعتبرها عدوّاً ثابتا،ً بل يريدها صديقاً محتملاً وذلك من خلال البحث عن المشتركات أوّلاً في إطار احترام السيادة وعدم التدّخل بالشؤون الداخلية، ولا سيّما حين يكون العراق قويّاً وضمن مشروع عربي موّحد، والأمر ذاته في العلاقة العربية – التركية، وقد عمل لفتح حوارات عربية – ايرانية وعربية – تركية منذ وقت مبكّر، ولعلّ إحدى البوصلات في توّجهه هذا، هو القضية الفلسطينية والموقف من العدو الصهيوني.
كانت علاقة حسيب وطيدة ومتطورة مع حزب الله اللبناني، وبالذات مع السيد حسن نصرالله الذي يكّن له احتراماً شديداً في إطار مشروع دعمه للمقاومة مع وجود التمايز بشأن بعض القضايا اللبنانية والعربية. وقد أقام علاقات صداقة مع رجال دين شيعة مثل آية الله السيد أحمد الحسني البغدادي وآية الله الشيخ جواد الخالصي لموقفهما من الاحتلال الأمريكي للعراق وأعرف أنّه طبع كتباً أو دعم طبعها خاصةً بإصدارات تتعلق بـ “الفكر الشيعي”، وذلك تشجيعاً للحوار والتنوّع. أمّا الموظفون لديه فإنهم من ألوان دينية ومذهبية مختلفة وأشكّ أنّه يعرف هويّاتهم الضيّقة، لأنّه باختصار لم يكن معنيّاً بذلك، وقد كان أحد أركان مكتبه وإدارته لنحو ربع قرن عبد الاله النصراوي، الشخصية العروبية المعروفة.
الاحتلال
اندفع حسيب في مشروع مقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق العام 2003 وتصرّف بطريقة أقرب إلى المعارضة أحياناً، ولم يكن التمييز سهلاً بين مواقفه وبين مواقف المركز، وأُدركُ أنه انطلق في ذلك دون أي طموح سياسي كما حاول البعض الغمز إلى ذلك من قناته، بل وحتى دون أن يفكّر في أن يكون له أيّ موقع سياسيّ في جميع الظروف وكان قد تخلّى عن ذلك منذ اعتقاله في العام 1968، مسخّراً جميع إمكاناته للبحث العلمي ولدراسات الوحدة العربية المستقبلية، لكنّ مواقفه كانت وجدانيّة ضميريّة، إذ لم يستطع هضم أن تقع “بلاد الرافدين” مجدّداً تحت الاحتلال الأمريكي بعد أن تخلّص العراق من الاحتلال والنفوذ البريطاني في العام 1958.
حاول حسيب أن يجمع معارضات مختلفة من التيار الصدري إلى هيئة علماء المسلمين، ناهيك عن وسط بعثي وقومي وبقايا تنظيمات قديمة وبعض الشخصيّات السياسيّة أو التي كان لها موقعاً إدارياً في الدولة، وعقد أكثر من مؤتمر لذلك، وكان قد دعاني إلى جميعها، لكنني اعتذرت عن حضور أي منها لأسباب بيّنتها له في جلسة مصارحة بحضور الصديق صلاح عمر العلي وكان رأينا أنّ المعارضات الخارجية تكون عرضةً للتداخلات الأجنبية وهي ظاهرة عامّة، وقلت له أنا أعرف المعارضة العراقية السابقة وكنت أول من نبّه لمخاطر التعويل على المشروع الخارجي وانسحبتُ منها في وقت مبكّر (1993)، فهل تريدني بعد هذه الأعوام الطويلة العودة إلى ذات المربّع؟ باختصار وتواضع أقول، إنّ المعارضات القائمة تتطلّع هي الأخرى إلى “العامل الدولي” كما تطلّعت سابقاتها إلى تداخلات خارجية لكي تضع الأمور لصالحها، وكل ذلك كان على حساب الوطن والمواطن.
لقد كان رأيي أنّ خير الدين حسيب بنى صرحاً ثقافيّاً وفكريّاً وأكاديمياً شامخاً وهو مركز دراسات الوحدة العربية ونحن جميعاً نفخر بمنجزه خصوصاً بإصداراته التي قاربت نحو 1000 كتاب في مختلف قضايا الفكر والثقافة والأدب والعلم والمعرفة المختلفة، أفلا يكفي هذا لخدمة العراق؟ أمّا إذا اقتضى الأمر بحث الموضوع العراقي فيمكن تنظيم ندوة من مختصين ومن تيارات مختلفة لبحث القضايا التي يواجهها العراق وتقديم plattform يمكن أن تتبنّاه أيّة جهة مناهضة للإحتلال من داخل العراق، بدلاً من معارضات تأكلها الصراعات وتتراشقها الاتهامات المتبادلة وتمتدّ يد الجهات الخارجية للعب فيها والعبث في مصائرها.
الدستور و الدستورانية
كان حسيب مهموماً بوضع مشروع دراسات لمستقبل العراق، وقد كلّفني لإعداد دستور عراقي في مؤتمر كبير نظمّه المركز وشارك فيه عشرات من الشخصيات العربية والعراقية الأكاديمية والثقافيّة والسياسيّة، وشرعتُ في لجنة ألّفها تضمّ كل من: يحيى الجمل وخير الدين حسيب ووميض عمر نظمي وخليل الكبيسي وعصام نعمان، وقد نوقشت المسوّدة في عدّة جلسات حتى تمّت الصياغة النهائية التي شاركني فيها نعمان، وقد استشكلتُ في موضوع المسألة الكردية ومبدأ حق تقرير المصير والفيدرالية، وقد كان رأيه إنّ مثل هذا الحق يقرّه للكرد في سائر الأقطار التي يوجدون فيها، وخصوصاً في تركيا وإيران وليس في العراق وحده، كي لا يكون العراق عُرضةً للتداخلات الإقليمية، وكان يعتقد أنّ مشروع الحكم الذاتي الموسّع بصيغة لامركزية هو المناسب في الوقت الحاضر، وبعد جدل طويل وتباين في وجهات النظر بقينا عند حدود تلك الصيغة.
كما كلّفني بكتابة قانون انتخابات وقانون أحزاب ضمن مشروع دراسات العراق المستقبلية الذي كان يعتقد أنّه يمكن أن يكون بديلاً لما بعد الاحتلال، وقد نوقش المشروعان في إطار لجنتين منفصلتين وتمّ إقرارهما، ونُشر المشروع الكامل بما فيه الدستور المقترح في كتاب صدر عن المركز ضمّ الموقف من الاحتلال وتبعاته القانونية وقضايا الجيش والنفط والإعلام والقضية الكردية وغيرها.
دستور اتحادي
على الرغم من التراجع العربي وذبول صيغة الدعوة السياسية للوحدة العربية، إلّا أنّها ظلّت قائمةً، بل شديدة الحضور في عقل خير الدين حسيب، حيث كان يأمل أن يأتي ظرف يمكن تحقيقها باتفاق دولتين عربيتين أو أكثر، ضمن حلمه الدائم حاضراً ومستقبلاً، وقد كلّفني بكتابة مشروع الدستور الإتحادي العربي بمشاركة من محمد المجذوب ومعن بشور وعصام نعمان ويحيى الجمل ورغيد الصلح وخير الدين حسيب، وكان يتابعني وكأن الوحدة العربية تدّق على الأبواب، وأنّ ما ينقصها هو هذا الدستور.
واستمرّ الأخذ والردّ في المشروع والنقاش حوله لمدة قاربت نحو ثلاث سنوات حتى تمّ إقراره بصيغته النهائية التي أعددتها والتي تمّت الموافقة عليها، وأذكر ذلك لأنّه لم يكن حسيب يكّل أو يملّ من سؤال عن كل شاردة وواردة قانونية أو سياسية أو إداريّة أو اقتصاديّة، بل أحياناً لا يكتفي بذلك خلال الاجتماعات، فيتّصل بي في المنزل وفي أوقات مختلفة ليتأكد من صياغة الفقرة أو الجملة التي اتفقنا على تدقيقها، وتلك عادته التي ظلّ يحرص عليها بدأب ومسؤولية وجلد ذاتي لا حدود له. كان يتابعني حين أقصّر في إجراء تعديل أو الدعوة إلى اجتماع أو إعداد محضر لإنجاز المشروع.
وكان يأمل بتوجيه الدعوة إلى أكثر من 120 شخصية عربية لمناقشته، وقد أعددتُ لائحة كاملة بالأسماء من مختلف البلدان العربية من أساتذة وفقهاء القانون الدستوري وشخصيات فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية ولها ممارسة عملية، وأتذكر أنّه كان حريصا على حضور بعض الشخصيات الكردية أيضا، فضلا عن مشاركة مختلف التيارات السياسية، ولكنّ المشروع تأجل بسبب استقالته من مواقعه الإدارية في المركز في العام 2017.
قواعد روبرت للديمقراطية
أذكر هنا حادثة طريفة لها دلالة مهمة للعقلية الإدارية التي يتمتّع بها حسيب، فقد طلبني في إحدى المرات على عجل، واتفقنا أن أكون عنده في ظهر اليوم التالي بعد أن قال لي أنّ الموضوع لا يحتمل التأجيل، وفاجئني حين جاءت السكرتيرة ووضعتِ حزمة أوراق كبيرة وضخمة أمامي (قاربت 450 صفحة) وخاطبني هذه الأوراق أريدها كتاباً قائلاً: أنّه مترجمٌ وحين بحثتُ عمّن يمكن أن يضعه بصيغة عربيّة مقبولة للقارئ العربي اهتديتُ إليك لخبرتك في هذا الميدان، وأرجوك أن توافق على التكليف، فقلت له أنّني لست مترجماً وعمل من هذا النوع قد يكون أصعب من الترجمة.
وبعد أخذ وردّ، أقنعني على أن أعدّ الصياغة العربية فيما يتعلّق بقواعد روبرت للديمقراطية الموضوعة في كتاب بكل اللغات الحيّة الّا اللغة العربية التي هي أحوج ما تكون إليها، والكتاب لا غنى عنه لأي برلمان أو حزب أو جمعية أو نقابة أو شركة أو مؤتمر أو اجتماع، علماً بأنّ هذه القواعد تطوّرت عبر أكثر من 200 عام حتى استقرّت على صيغتها التي هي الأخرى مفتوحة وقابلة للإضافة بالتراكم وتواتر الاستعمال.
بعد نحو ستة أشهر أنجزتُ العمل الذي استفدت منه و استمتعتُ به وقد أخذ مني نحت المصطلحات وتبيئتها أو توطينها كما يُقال نحو ثلاثة أشهر، لكي لا يكون أي تعارض بينها فيما إذا وردت ما يدلّ عليها في مكان آخر. بعد أقلّ من شهرين أرسل لي أبا طارق كتاب شكر على جهدي مع خمس نسخ هديّة من المركز ورجاءً حاراً بكتابة تقريظ للكتاب الذي أعددته لنشره في مجلة المستقبل العربي، وبالفعل حصل ذلك ونُشر في أول عدد صدر للمجلة، ومثل تلك المجهودات “والمونات” لا يقدر عليها شخص سوى خير الدين حسيب، أمّا عنوان الكتاب فقد كان “قواعد النظام الديمقراطية” مع عنوان فرعي “قواعد روبرت التنظيمية للإجتماعات” وهو من ترجمة دكتور عبدالله بن حمد الحميدان، ومن تأليف هنري إم. روبيرت الثالث و وليام ج. ايفانز ، ودانييل إيتش.هونمان، وتوماس ج. بالش، وقد صدر في العام 2005.
الرحيل إلى المستقبل
أخيراً وفي يوم 12 آذار (مارس) 2021 رحل خير الدين حسيب وحيداً ومكسوراً عن عمر ناهز 92 عاماً، بسبب الأوضاع العامة والخاصة، خصوصاً في ظلّ اجتياح وباء كورونا ” كوفيد – 19″ العالم أجمع، واضطرار الجميع إلى التباعد الإجتماعي، فـ “الولادة والموت تجربتان في الوحدة” كما يقول الشاعر المكسيكي أكتافيو باث الحائز على جائزة نوبل للآداب العام 1990، فنحن نولد مستوحدين ونموت مستوحدين. وقد بقيَ خلال السنوات الأخيرة جليس الدار موّزعاً بين كتبه وشذرات من مذكراته وذكريات عطرة كنت أحاول تقليبها معه، وسأتوقف لاحقاً عند ذلك حين يُسعفني الوقت، علماً بأنني كنت قد وجّهتُ له باقة أسئلة عن محطات مهمة في حياته ومشروعه الفكري وبعض القرارات الحاسمة التي كان له اليد الطولى فيها العام 1964 وإدارته للمؤسسة الاقتصادية وعمله محافظاً للبنك المركزي وقرار تأميم المنشآت الإقتصادية أو ما سمّيَ بـ القرارات الإشتراكية، وعلاقته بمصر والتنظيم الطليعي وصلته بـ أمين هويدي (السفير المصري في العراق) وموقفه من الشيوعيين وغيرها من القضايا، وإن لم يستطع الإجابة عليها تحريرياً، فقد أخذتها على لسانه شفاهاً ودوّنتها وقرأتها عليه.
على الرغم من الصورة الخارجية المعروفة عن خير الدين حسيب والتي تتّسم بالحزم والإرادة الحديدية والقرارات الإدارية الصارمة والاجتهادات الشخصية الحادّة التي لا تخلو من بعض الإرتياحات، إلّا أنّه كان يحمل قلب طفل صغير عاطفيّ لدرجة كبيرة وبسيط، بل في غاية البساطة، لكنّ طريقة حياته وأسلوب عيشه جعلت من العمل والعمل والعمل نظرية حياة بالنسبة له، أخضع من أجلها كل شيء لدرجة اعتبر المركز أحد أبنائه وكانت كريمته الصغرى زينب تقول له أنّ لديك 4 أبناء وليس ثلاثة، بل أن المركز كان من أكبر أبنائه وفي الصدارة دائماً وهو على لسانه في كل المناسبات، لدرجة التوّله والعشق والتماهي بينهما.
لقد تسنّى لي خلال السنوات الأخيرة أن أزوره أسبوعياً، بل لأكثر من مرة في الأسبوع أحياناً وربما في بعضها لأكثر من مرة في اليوم لأطرد عنه الوحشة ولأخفّف عنه آلام الزمن وعذابات الشيخوخة وجحود البعض وغدره، وفي كل مرّة كنتُ أُفاجئ بأنّه لم ينقطع لحظة عن التفكير بالمستقبل، وكأنّه سيعيش عمراً لا ينتهي.
ومثلما ابتدأت مقالتي هذه بالحديث عن علاقة حسيب بالمستقبل فقد كانت آخر رسالة كتبها لي تتعلّق بإصدار كتاب جديد وكأنّه ما زال في عزّ شبابه يفكّر بالمستقبل، وأنشر هنا نص رسالته بتاريخ 13/1/2021 (مرفقاً) (بشأن مأسسة العمل الفكري القومي العربي).
وقبل رحيله بنحو عشرة أيام اتصل بي فجراً (حوالي الساعة الرابعة إلّا ربعاً) ليسألني متى أعود من لندن، حيث ذهبت لأخذ اللقاح (Vaccine) فأبلغته بعد ثلاثة أيام، وما أن حطّت الطائرة حتى استلمتُ مكالمة منه طالباً تحديد موعد اللقاء، وأبلغته بعد انتهاء الحجر الذي سيستمر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع اتصلتُ به فكان متعباً ونائماً وعاودت الإتصال لأكثر من مرّة خلال اليومين اللاحقين دون جدوى إلى أن اتصلت بي زوجته السيدة شيرين لتبلغني الخبر الحزين.
عاش حسيب بشجاعة وشموخ وإباء، ولم يتنازل حتى لجلادّيه حين اعتقل في قصر النهاية، بل أنّه في وقت لاحق وحين وصل إلى بيروت في العام 1974 مارس رياضة نفسية ليتخلّص مما أسماه بالكراهية والحقد والإنتقام، واضعاً قضية الوطن والأمّة العربية والعروبة الثقافية في المقدمة متجاوزاً محنته الشخصية، وحين رحل كان براحة بال واطمئنان وثقة بأنّ مستقبل الأمة العربية رغم النكبات والهزائم العربية سيكون بخير وأن المشروع النهضوي العربي الذي عمل عليه سيفتح الطريق إلى المستقبل ولربّما كان يراه كشلال ضوئي، وهكذا عاش خير الدين حسيب ومات وهو يفكّر بالمستقبل، بل كان يعيش فيه ويقيناً أنّه رحل إليه.نُشرت في جريدة الزمان العراقية (بغداد – لندن) يوم السبت 20-3-2021.