شطحات ماركس

شطحات ماركس

شطحات ماركس

 صوت الإمارات -

شطحات ماركس

عبدالحسين شعبان
بقلم - عبدالحسين شعبان

في استفتاء أجرته هيئة الإذاعة البريطانية الـBBC في مطلع الألفيّة الثالثة كان ماركس واحداً من بين أهم 100 شخصية مؤثّرة في العالم، ولا أخال أحداً من جيلنا الستّينيّ إلّا وترك ماركس شيئاً عنده، لكن ذلك لا يعني أنّه دون أخطاء أو شطحات، وباستثناء المنهج الذي اعتمده والقوانين التي اكتشفها بشأن الصراع الطبقي وفائض القيمة، فإنّ الكثير من تعاليمه لا ينبغي التعامل معها كنصوص مقدّسة لدرجة اعتبارها أقرب إلى الأسفار التوراتية أو الآيات الإنجيلية أو القرآنية، ويذهب البعض أكثر من ذلك إلى تنزيهه من الأخطاء، بل يضعه خارج دائرة النقد، سابغاً عليه نوعاً من المعصوميّة؛ في حين إنّ تعاليم ماركس واجتهاداته هي مجرّد آراء بعضها تجاوزها الزمن أو أن الحياة لم تزكّها، لكن ذلك لا ينفي عبقريّته ومواهبه وموسوعيّته كفيلسوف ومفكّر وعالم اجتماع واقتصادي وسياسي يسيل من قلمه حبر الأديب وتتدفّق لغته بالشعر.
في العام 1984 كتبتُ في مجلّة “الهدف” خاطرة تأمّلية بعنوان “بروموثيوس هذا الزمان” جئت فيها على منجز ماركس الفكري والثقافي، وذلك بمناسبة وفاته (14 مارس/آذار1883). وإذا كان أعداؤه وخصومه يعتبرونه تهديداً لهم ولمصالحهم لدرجة أنّ شبحه لم يعد يجوب “أوروبا العجوز” فحسب، بل شطر العالم إلى نصفين في القرن العشرين، فإنّ أنصاره ومريديه تعاملوا مع تعاليمه وتفسيراته كمعتقدات “منزّلة”، مردّدين بعض مقولاته بطريقة أقرب إلى التعاويذ والأدعية والتلقينيّة المدرسية التي لا علاقة لها بجوهر منهجه، ناهيك عن روح العصر.

ثلاث قضايا يمكن التوقّف عندها في هذه المساحة بشأن بعض شطحات ماركس؛
أولاها – موقفه الخاطئ بخصوص الاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر (1830)، ورسالته “التمدينيّة”، ولعلّ الفضل في إطلاعنا على موقفه هذا يعود إلى الصديق جورج طرابيشي الذي ترجم كتاباً عن الفرنسية بعنوان “الماركسية والجزائر” كشف فيه عن قصور وُجهة نظر ماركس، علماً بأن الطبعة الروسية كانت قد حذفت فقرات منه لأنها صادمة ومُحرجة، خصوصاً رؤية ماركس المغلوطة وتقديره المخطوء للإستعمار الفرنسي في الجزائر بوصفه شكلاً من أشكال الهجرات التي تنقل التمدين والتحضّر إلى شعوب شبه بدائيّة أو شعوب متخلّفة” بوصفها: بدوًا، قطّاع طُرق، لصوصًا، وكانت نظرته تلك تقوم على وجهة نظر اقتصادية بحتة، بعيداً عن الجوانب الحضارية والثقافية والإنسانية، بتفسير مبتسر مفاده أنّ الثورة الصناعية أدّت إلى تضخّم رأس المال واحتاجت إلى الموارد والأسواق والأيادي العاملة، فكانت الهجرات. ومثل هذا الرأي يهمل الطابع الإجرامي لتلك المحاولات الاستعمارية الاستيطانيّة وسعيها لقهر شعوب هذه البلدان ونهب ثرواتها وتدمير ثقافاتها وإلغاء هُويّاتها، ومع أنّه لم ينسَ التعاطف مع الضحايا، لكنّ ذلك جاء من زاوية أخلاقية.

بتقديري إن فترة بقاء ماركس في الجزائر للاستشفاء من 20 فبراير/شباط إلى 2 مايو/أيار 1882 لم تكن كافية لمعرفة معمقّة للمجتمع الجزائري، وانطلق في حكمه من “المركزية الأوروبية” التي هيمنت على تفكيره والرأسمالية الصاعدة فيها، حيث قام ماركس بتحليل قوانينها بدقّة كبيرة مشخّصاً عيوبها ومثالبها ونظامها الاستغلالي على نحو عميق وعظيم.
ثانيتها – موقفه المتناقض من تقرير المصير، فعلى الرغم من أنّه هو الذي صاغ فكرة “أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرًّا” ودعا إلى استقلال بولونيا في حركة قادها الإقطاعيون ضدّ روسيا لأن ذلك سيكون خطوة مهمّة تسمح بإنضاج التناقضات، وهي استنتاج دقيق لكنه وقف ضدّ حقّ تقرير المصير للشعبين التشيكي، والسلوفاكي، اللذين كانا يطالبان بالاستقلال من الامبراطوية النمساوية – المجريّة، والسبب حسب وجهة نظره أنّهما “شعبان رجعيّان” وضعيفان وصغيران ويمكن أن يقعا تحت هيمنة الروس وسيكون نجاحهما في الظّفر بذلك تقوية لدور روسيا بتشجيع من فرنسا، وسيتم توظيفهما ضدّ ألمانيا المتطوّرة صناعيًّا، وهي نظرة خاطئة قامت على فرضيات اقتصادية بعيدة عن الجانب الإنساني التحرّري.
وثالثتها – كان موقفه المُلتبس والخاطئ من ايرلندا، لا سيّما في المرحلة الأولى، ففي رسالة منه إلى إنجلز بتاريخ 23 أيار (مايو) 1856، يقول “لقد تحوّل الإيرلنديون بواسطة القمع المنهجي إلى أُمّة ساقطة”، وهناك رسالة ثانية بهذا الخصوص بتاريخ 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1869، ويبني استنتاجاته انطلاقاً من منظور تقدّميّة الطبقة العاملة الإنكليزية تجاه إيرلندا المتخلّفة والمحتلة، التي يعزو إليها سبب سقوط الجمهورية في زمن كرومويل، ويدعو إلى أن تقطع الطبقة العاملة الإنكليزية علاقتها مع ايرلندا بعيداً عن كلّ جملة أُمميّة وإنسانية بشأن العدالة، وحسب رأيه إن لم تنتصر الطبقة العاملة وتتحرّر في إنكلترا فلن يتمّ تغيير الأوضاع في ايرلندا، أيّ أن التحولات الاشتراكية في المركز ستؤدي إلى تحسّن الأمور في البلد الطرفي والمتأخر، لأن رافع التقدم هو لندن، وليس دبلن، لكنه يعود في العام 1870 ليتحدّث عن اضطهاد مركّب رأسمالي متزامن مع اضطهاد قومي ضدّ ايرلندا.
وباستثناء المنهج فجزء كبير من تعاليم ماركس وشطحاته بالطبع يمكن الاحتفاظ به في المكتبات أو المتاحف، حتى وإن بقيت الأحلام واليوتوبيّات ورديّة، فتلك مأثرة أيضاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

شطحات ماركس شطحات ماركس



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates