فريضة التسامح وفرضيّاته

فريضة التسامح وفرضيّاته

فريضة التسامح وفرضيّاته

 صوت الإمارات -

فريضة التسامح وفرضيّاته

عبدالحسين شعبان
بقلم - عبدالحسين شعبان

حين يرتقي التسامح ليصبح فريضة من الفرائض فهذا يعني أنّه راهني وحاجة ماسّة ولا غنى عنها، بل ضرورة ملحّة بقدر ما هو خيار لتيسير حياة الفرد والمجتمع والدولة، وعكسه سيكون اللّاتسامح بمعنى التعصّب ووليده التطرّف والعنف والإرهاب، ناهيك عن العنصريّة والشوفينيّة والاستعلاء والهيمنة وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، والزّعم بالحق في احتكارها.
وإذا كان البشر خطّائين على حدِّ تعبير فولتير، فعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح، فلا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وليس هناك أفضليّة لبشر على آخر بسبب صفاته البيولوجيّة أو عرقه أو دينه أو جنسه أو لغته أو لونه أو أصله الاجتماعي، والبشر مختلفون باختلاف أشكالهم وصفاتهم وقوميّاتهم وأديانهم ولغاتهم وأجناسهم وانتماءاتهم وأصولهم الاجتماعية وأهوائهم وأمزجتهم وأذواقهم، لذلك يقتضي أن ينظر كلّ منهم إلى الآخر بالاحترام والقبول والتقدير والانفتاح والتواصل وحرّية الفكر والضمير والمعتقد، وهو ما جاء في الإعلان العالمي للتسامح الصادر عن منظّمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في العام 1995 والذي تقرّر فيه اعتبار يوم 16 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام يوماً عالميًّا للتسامح.

ولأنّ مجتمعاتنا تعاني نزعات الإقصاء والإلغاء والتهميش، فنحن أشدّ ما نكون إلى التسامح كخيار استراتيجي لقطع الطريق على القوى المتعصّبة والمتطرّفة والعنفيّة والإرهابية التي لا تؤمن بالحوار والتواصل بين الثقافات وأتباع الأديان والمذاهب وصولاً إلى المشترك الإنساني، ليس هذا فحسب، بل إنّ ما نشهده من إساءات لديننا الحنيف ومجتمعاتنا العربية الإسلاميّة، يدفعنا للبحث عن السبل الكفيلة لنشر ثقافة التسامح وتعميمها، والأمر لا يتعلّق بمجتمعاتنا فحسب، بل بامتداداتها للجاليات العربيّة والمسلمة في أوروبا والغرب، ولعلّ ما حصل من عمليات إجراميّة مؤخّراً في باريس ونيس وفيينا خير دليل على ذلك، بما فيها ردود الفعل السلبيّة التي تتّهم العرب والمسلمين بالجملة بالإرهاب، لأنّ دينهم يحضّ على ذلك كما ذهبت إلى ذلك الموجة الشعبويّة العنصريّة الجديدة، التي عبّر عنها خطاب الرئيس الفرنسي ماكرون إثر مقتل المدرّس الفرنسي بالطريقة الفجائعيّة المعروفة.

 

المقصود من اعتبار التسامح فريضة، لأنّه يعني الوئام في سياق الاختلاف واتّخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحقّ الآخرين من التمتّع بحقوق الإنسان وحرّياته الأساسية المعترف فيها عالميًّا، ولذلك لا ينبغي التذرّع والاحتجاج بالتسامح لتبرير المساس بالقيم الأساسية لحقوق الإنسان، كما لا ينبغي بحجّة مواجهة اللّاتسامح تقليص الحقوق المدنيّة والسياسيّة أو التجاوز على عقائد الآخرين أو دمغ مجموعات ثقافيّة بالإرهاب أو تقييد الحقوق والحرّيات بما فيها الإعلامية.
اعتقادان خاطئان سادا ضدّ فريضة التسامح، الأوّل – الذي يقوم على الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام) باعتبار تعاليمه تحمل فيروسات العنف والإرهاب، وقد صار مثل هذا الاعتقاد جزء من المتخيّل الجمعي في الغرب، والثاني – الويستفوبيا (الرهاب من الغرب) باعتباره شراً مطلقاً ويتم ازدراؤه من جانب الإسلامويين والمتعصبّين لدينا، ومثل هذين الرأيين يقومان على أيديولوجيا مسبقة تلك التي تشيطن الآخر بنظرة إسقاطيّة أساسها الكراهية والاستعلاء.
وإذا كان عالم التسامح مرتبطاً أيضاً بالحداثة والمدنيّة والعقلانية فكيف السبيل للولوج إليه؟، وفي هذا الصدد نقول هناك 10 فرضيّات أساسية إذا ما أخذت بها المجتمعات والبلدان واعتمدت كقواعد قانونيّة يمكن تهيئة بيئة صالحة لبذر التسامح وإروائه ليصبح شجرة باسقة وهي الإقرار بـ: أولاً – نسبيّة المعرفة، وبالتالي تجربة الخطأ والصواب، وكان أوّل من دعا إلى ذلك سقراط وطوّر الفكرة بعده فولتير؛ وثانياً – لا عصمة من الخطأ، فحتّى العلماء يخطأون، وليس لبشر عصمة طالما هو يعمل فهُ يخطىْ؛ وثالثاً -عدم امتلاك الحقيقة، والكل يحاول مقاربتها من خلال النقاش والجدل، ورابعاً – التعدّدية والتنوّع للأديان والقوميّات والبلدان والمجتمعات والأفراد؛ وخامساً حق الاختلاف باعتباره حقيقة فائقة وسيكون البحث عن التطابق مجرّد وهْم مثلما سيكون كل إجماع مصطنعاً بإلغاء الفروق. وسادساً، الموقف الإيجابي من الآخر، وهو دليل حضاري لقبول فكرة التسامح؛ وسابعاً عدم التمييز الذي ينبغي أن يكون على قاعدة المساواة والعدل في التشريع والقضاء والإدارة أي “حكم القانون” الذي عبّر عنه مونتسكيو بقوله: (القانون مثل الموت لا يستثني أحداً)، أي يسري على الجميع حكّاماً ومحكومين؛ وثامناً – المساواة صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، وقد جاء في القرآن الكريم أن البشر متساوون في الكرامة الإنسانيّة وورد في سورة الإسراء “تكريم بني آدم”؛ وتاسعاً نشر التسامح من خلال التربية والتعليم للمراحل المختلفة كفلسفة وثقافة، إضافة إلى دور الإعلام والمجتمع المدني والفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
وأخيراً، وعاشراً – ضرورة إصلاح المجال الديني، ومن خلال إصلاح الفكر الديني يمكن إصلاح الخطاب الديني، وعلى غرار هوبز: كلُّ إصلاح مفتاحه الفكر الديني، وإذا ما سادت هذه الفرضيّات وأصبحت واقعاً يمكن الحديث عن فريضة التسامح من خلال فلسفته وثقافته ووجوده في الحياة اليومية والاجتماعية على صعيد كل من المجتمع والفرد وعلى الصعيد الدولي أيضاً، كقيمة أخلاقيّة مثلما هو قيمة اجتماعيّة وقانونيّة. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فريضة التسامح وفرضيّاته فريضة التسامح وفرضيّاته



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 22:24 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 00:23 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 08:23 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

التفرد والعناد يؤديان حتماً إلى عواقب وخيمة

GMT 20:55 2018 الخميس ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير الهجرة الكندي يؤكد أن بلاده بحاجة ماسة للمهاجرين

GMT 08:24 2016 الأحد ,28 شباط / فبراير

3 وجهات سياحيّة لملاقاة الدببة

GMT 03:37 2015 الإثنين ,08 حزيران / يونيو

عسر القراءة نتيجة سوء تواصل بين منطقتين في الدماغ

GMT 22:45 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

استمتع بتجربة مُميزة داخل فندق الثلج الكندي

GMT 02:49 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

ليال عبود تعلن عن مقاضاتها لأبو طلال وتلفزيون الجديد

GMT 04:52 2019 الخميس ,03 كانون الثاني / يناير

"هيئة الكتاب" تحدد خطوط السرفيس المتجهة للمعرض

GMT 04:47 2018 الأربعاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

شادي يفوز بكأس بطولة الاتحاد لقفز الحواجز

GMT 18:39 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

أجمل الأماكن حول العالم للاستمتاع بشهر العسل

GMT 17:16 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

وعد البحري تؤكّد استعدادها لطرح 5 أغاني خليجية قريبًا

GMT 05:14 2018 الخميس ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إيرباص A321neo تتأهب لتشغيل رحلات بعيدة المدى
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates