يقلم - عماد الدين أديب
توقيع الاتفاق «المصرى - اليونانى» لترسيم الحدود البحرية بينهما أصاب السياسة التركية بحالة من الهيستريا والجنون!!التوقيع يحقق 3 أهداف جوهرية دون إطلاق طلقة رصاص واحدة:1- يلغى أى مصداقية أو قيمة للاتفاق التركى مع حكومة السراج -المنتهية ولايتها- فى نوفمبر الماضى.2- يضمن الحقوق المشروعة لدول شرق البحر المتوسط: مصر، اليونان، قبرص، إسرائيل، إيطاليا، لبنان، دون وجود أى حق مشروع لغيرها للبحث أو التنقيب أو لاستخراج الغاز شرق المتوسط، البالغ احتياطيه المبدئى 200 تريليون قدم مكعب من الغاز و1.7 مليار برميل من النفط.3- يجعل كل الوجود العسكرى التركى، وكل النفقات التى بعثرت على نقل المرتزقة من سوريا إلى تركيا، ومنها إلى ليبيا، وكل جهود التدريب، والتسليح، والإمداد والوقود وبطاريات الصواريخ، ومنصات الرادار، والقطع البحرية التركية قبالة الساحل الليبى كلها لا معنى لها!!!لماذا لا معنى لها؟افتراضياً، ولو من قبيل الجدل، لو استولى المرتزقة الإرهابيون بدعم من تركيا على كل ملليمتر من التراب الليبى، فإنه لا مشروعية عالمية لهم فى إنتاج سلعة استراتيجية وتصديرها وبيعها خارج نطاق الشرعية الدولية، ووفق الحقوق الدولية المنظمة لاستغلال الثروات البحرية.ولأن أردوغان يعيش -كما قلنا مراراً- فى حالة نفسية متأخرة من «خلل فى الإدراك»، بمعنى أن الحقيقة عنده ليست كما هى، ولكن كما يتمناها هو، بصرف النظر عن مدى مطابقتها للواقع، والحق، والقانون الدولى.لا يمكن لقانونك الشخصى، مهما أوتيت من قوة أن يُجب ويلغى القانون الدولى، هذا درس تعلمته البشرية ودفعت ثمنه غالياً فى عهود هتلر فى أوروبا، وصدام فى الخليج، وجنرالات الصرب فى البوسنة، ومعمر القذافى فى ليبيا وعلى عبدالله صالح فى تعاونه مع الحوثيين، وقاسم سليمانى فى سوريا والعراق.وقبل هؤلاء فهم الدرس من هم أكبر منهم جميعاً، فهذا الدرس تلقاه الأمريكى فى فيتنام، والروسى فى أفغانستان، والبرتغالى فى أنجولا، والإيطالى فى ليبيا، والتركى بعد 400 عام من سلطة الاستبداد، والبريطانى فى الصين والهند.إنه ضرب من الجنون، بل هو الجنون بعينه أن تصاب بغطرسة القوة، وتعتقد أن أرواح هولاكو وهتلر ونابليون قد تلبستك بقوة، وأصبحت صاحب قوة نووية منفردة ومطلقة، قيصر هذا العالم الذى يمكن أن يفعل «ما يريد وقتما يريد، بالطريقة التى يريدها، دون أن يدفع أى ثمن».إنها تلك المسافة التى لا يقيسها البعض بين «الرغبة» فى فعل الشىء، و«القدرة» على التنفيذ!فى سرية، وتكتم شديد أدارت كل من القاهرة وأثينا مفاوضات تفصيلية مطولة بينهما لترسيم الحدود البحرية، ومنذ 3 أيام تم استدعاء رجال الإعلام فى القاهرة للإعلان عن إنجاز الاتفاق.جن جنون «أنقرة» واعتبرت الاتفاق كأنه لم يكن وأنه غير ملزم لها، وأنه يتعدى على حقوقها فى شرق المتوسط، وتوعدت بأنها سوف تواصل التزامها بالدفاع عن حقوقها وحقوق قبرص التركية.محور الاحتجاج التركى الهيستيرى يقوم على نظرية أنه «غير شرعى لأنه يعتدى، بل يلغى فعلياً الاتفاق التركى مع حكومة السراج الذى تم توقيعه فى نوفمبر الماضى».ببساطة اخترعت تركيا لنفسها، بالتعارض الكامل مع التاريخ، والجغرافيا، وواقع الحدود البحرية، والقانون الدولى، واتفاقية ترسيم الحدود البحرية «خط أساس» تنطلق منه حدودها البحرية، وقررت هكذا، من وحى خيالها المريض، أن يكون خط الأساس من سواحل قبرص التركية وسواحل غرب ليبيا، ولتذهب حدود الغير واتفاقاتهم السابقة إلى الجحيم!ولكن ما هو «خط الأساس»؟حدد قانون البحار المناطق البحرية للدولة من خط الأساس وقسم خطوط مياهها إلى:1- مياه إقليمية.2- المنطقة المتلاصقة.3- المياه الاقتصادية.المياه الإقليمية هى تلك التى تطبق فيها الدولة قوانينها وتضع فيها قواعد المرور، ويبلغ مداها 22 كيلومتراً.أما المنطقة المتلاصقة فهى تشكل 22 كيلومتراً إضافية، ولا توجد سيادة مطلقة للدولة عليها، لكنها لها علاقة بتقنين «الضرائب والجمارك والهجرة والبيئة».أما المنطقة الاقتصادية، التى تبلغ 370 كيلومتراً عن بعد من خط الأساس، فهى تلك المنطقة التى يكون فيها للدولة الحق الخالص فى استغلال مواردها.وأزمة الأزمات لدى التركى أنه لم يكتشف قدم غاز واحدة فى المنطقة الاقتصادية الساحلية أمام جميع سواحله، فى الوقت الذى يكفى فيه إنتاجه المحلى من النفط أربعة فى المائة فقط من احتياجاته، وتصل فاتورة استيراد الطاقة ما بين 50 و60 مليار دولار أمريكى -على الأقل- كل عام.إذن يصبح الحل التركى، لهذه الأشكالية، هو القيام بأعمال قرصنة بحرية بالقوة المسلحة، لتغيير واقع الحقوق المشروعة لدول شرق المتوسط، وتزوير خارطة جديدة تضمن لهم -بالباطل- حق كعكة أكبر خزان غاز فى العالم.ولكن ما الذى يعطى الاتفاقية المصرية - اليونانية شرعية ومصداقية؟أولاً: أن كلتيهما وقعتا على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية للأمم المتحدة وبالتالى ملتزمتان بقواعدها.ثانياً: أن هناك تقابلاً جغرافياً بين الحدود المصرية - اليونانية وجزيرة «كريت»!ولا بد من لفت النظر إلى أن المقابل للساحل الليبى هو الجزر اليونانية، ما يعنى أنه لا حدود متقابلة بين تركيا وليبيا، ما يجعل الاتفاقية بين أنقرة وطرابلس باطلة بلا معنى ولا شرعية دولية أو سند من الواقع الجغرافى.ثالثاً: أن هذا الاتفاق يعطى الحق الكامل لمصر واليونان فى حق التنقيب عن ثرواتهما، وفق قواعد من العدل والإنصاف مع الدول المتلاصقة أو المتقابلة معها وفق اتفاقية البحار.تسعى تركيا إلى أن تحصل على الغاز، وحق تصديره عبر أراضيها، والنفط اللازم لها مجاناً، والاستفادة من الصناديق السيادية لدول الخليج عبر تسخيرها إلى أسواق مفتوحة على مصراعيها أمام البضائع والشركات والخدمات التركية من صناعة البلاستيك، إلى البناء، وصولاً إلى بيع السلاح وتأمين الأنظمة، عبر عقود خدمات أمنية، كما هو الحال فى الدوحة وطرابلس.الشىء الذى تصمت «أنقرة» فى الحديث عنه ويصاب أى مسئول تركى بالخرس الكامل حينما يطرح أمامه كحقيقة هو أن تركيا لا تستطيع أن تتحدث عن أى شرعية فى أى حدود بحرية خاصة بها أو بغيرها فى شرق المتوسط، لأنها ببساطة غير موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.هنا يبرز السؤال العظيم: على أى مرجعية قانونية وعلى أى تقنية بحرية تم توقيع الاتفاق البحرى بين تركيا وحكومة السراج المنتهية ولايتها؟فى نوفمبر الماضى أيها السادة وقعت دولة لا حدود بحرية لها فى هذه المنطقة، ولا يوجد لها ساحل مقابل مع الدولة التى وقعت معها، اتفاقاً مع حكومة فاقدة الشرعية حول حدود بحرية بلا مرجعية دولية، بالإضافة إلى أنها لم توقع وبالتالى لم تنضم لاتفاقية الأمم المتحدة لترسيم الحدود البحرية!!ورغم ذلك كله يخرج رئيسها، ووزير خارجيتها، ووزير دفاعها يعطون العالم دروساً فى الشرعية والأخلاقيات والقانون الدولى!«شىء لا يصدقه عقل»!