الصراع بين الكبار يتجلى فى أعلى درجاته ومراتبه فى مسألة التسليح!
أى نظام أو عقيدة قتال تستخدم أى نوعية مقاتلات؟ أى نظام دفاع صاروخى؟ أى قطع بحرية؟ تلك هى مقاييس رضاء الكبار عن الأدنى، لأنها فى حقيقة الأمر علاقة بائع بمشترٍ، أو منتج لسلعة مع زبون مستهلك!
ولأن السلاح سلعة استراتيجية نادرة وهى فى حقيقة الأمر تستخدم إما للدفاع والحماية أو الردع تجاه الأعداء، أو أداة هجوم وضربات استباقية فإن قيمتها عالية للغاية، وسعرها مرتفع بشكل جنونى، وأرباحها خيالية، وقرار الموافقة على البيع أو الامتناع عن التوريد هو إحدى أدوات الكبار ضد الصغار بالسالب أو الموجب.
واستقراء نتائج عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية سوف يرشدنا إلى أن صناعة السلاح من «واشنطن» إلى «موسكو» ومن «لندن» إلى «باريس» ومن «بكين» إلى «برلين» هى أداة ضغط، ومصدر ربح ومعيار قوة استراتيجية.
وكما أن الحروب تدار بالسلاح، فإن العالم شهد حروباً حول مشتريات السلاح مما عرف وشاع بسباق التسلح.
وتدل الأرقام على أن أكبر 6 مشترين للسلاح فى العالم الآن يقعون فى منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا يصبح سكانها هم الزبون، ويصبح الكبار هم البائع.
السلاح يضع القرار السياسى فى المنطقة تحت رحمة بائعى السلاح.
من هنا كان لا بد من تنويع مصادر الشراء حتى لا تقع أى دولة فريسة للتحكم فى سيادتها ومحاولات التأثير السلبى على مصالحها من قبَل البائعين.
من هنا أيضاً يمكن فهم قرار الزعيم العظيم أنور السادات بطرد الخبراء السوفيت والانفتاح على أسواق العالم فى مصادر التسليح وتغيير عقيدة تسليح الجيش المصرى، ويمكن فهم الزعيم السعودى الملك فهد بن عبدالعزيز فى عقد الصفقة السرية للصواريخ الصينية لحماية الحدود والأجواء السعودية، ويمكن فهم ما قام به الرئيس عبدالفتاح السيسى منذ أن كان وزيراً للدفاع حتى يومنا هذا بالدخول فى صفقات نوعية استراتيجية مع الروس والفرنسيين والصينيين والألمان، بالإضافة إلى الأمريكيين، ما أحدث قفزة عظيمة فى الميزان العسكرى المصرى الذى أوصل مصر إلى الترتيب التاسع فى مؤشرات التسلح والقوة لجيوش العالم.
الآن، نجد أن هذه المعركة التى أدارها الرئيس السيسى بمهارة فى تنويع مصادر السلاح يقع فى عيوبها الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، التى أوقعته فى أزمة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب.
قرر «أردوغان» من قبيل «الكيد السياسى» للمصالح الأمريكية ومن قبيل الرشوة السياسية للمصالح الروسية التى يحتاجها بقوة الآن فى تحديد مستقبل النفوذ التركى فى سوريا، أن يشترى «درة التاج» فى صناعات السلاح الروسية، وهى نظام الدفاع الصاروخى «إس 400».
عرفت القوات الروسية نظام «إس 400» عام 1999 وهو أيضاً نفس النظام الذى يستخدمه الجيش الشعبى الصينى، وهو نظام ملاحقة يعمل بالقصور الذاتى والتوجيه بالأوامر.
ويعتبر نظام (إس 400) نظام ترقية لعائلة (إس 300) التى دخلت الخدمة بقوة منذ العام 2007 وهو يستخدم فى ذات النظام أربعة صواريخ بعدة مدايات 400 كم، و250 كم، و120 كم، و40 كم، حسب بعد الهدف، ويعرف هذا النظام بأنه من أفضل الأنظمة الدفاعية فى العالم، وتم اختباره بكفاءة شديدة فى الحرب السورية مؤخراً.
من هنا اعتبرت «واشنطن» أن القرار التركى بشراء هذا النظام هو عمل مضاد لمصالحها، ما دفع المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، شارلز سامرز، أن يهدد صراحة بأن «تركيا قد تواجه عواقب خطيرة فى حال اشترت المنظومة الروسية».
وأضاف «سامرز»: «إنه إذا تمت هذه الصفقة فإنه لن يكون بمقدور الأتراك الحصول على طائرات إف 35 وصواريخ باتريوت».
والمتوقع أن يبدأ تركيب هذه الصواريخ بعد فترة لا تزيد على خمسة أشهر مقبلة فى تركيا.
هنا لا يصبح الصراع بين «واشنطن» و«موسكو» على نفط أو حدود أو موانئ أو نفوذ سياسى فحسب، لكنه يتجلى فى أعلى درجاته فى صراع تنافسى بين بائعين للسلاح الأول يبيع (إس 400) والثانى يبيع «باتريوت» خلف كل نظام منهما خبراء، وأجهزة، وأبحاث، وبنوك، وصناعات عسكرية، ومصالح شرسة، لن يسمح بدخول الآخر إلى منطقة نفوذه أو مصالحه.
ويؤمن «أردوغان» بأنه يستطيع أن يشترى السلاح الروسى دون أن يخسر السياسة الأمريكية!
هذا المنهج يعبر عن شعور مفرط بالقوة الزائدة والحسابات القائمة. «إنه مهما تجاوزت تركيا الخطوط الحمر مع الأمريكان فإن واشنطن سوف تغفر لها لأنه لا يمكن لها أن تستغنى عن الدور التركى فى المنطقة وتحديداً فى سوريا والعراق».
الأيام المقبلة كاشفة لعدم دقة حسابات «أنقرة» وغطرسة سياسات «أردوغان».
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الاتحاد