شعر كل مواطن مصرى وسودانى بارتياح شديد تجاه خبر موافقة إثيوبيا على عدم ملء خزان سد النهضة قبل إبرام اتفاق نهائى مع القاهرة والخرطوم.
هذا الارتياح الذى ندعو الله أن يكون فى محله هو أمر مؤقت، لأن العبرة فى النهاية بـ«الخواتيم»، بمعنى أن النص النهائى الموقع عليه والمعتمد من الدول الثلاث، والدول المراقبة، والمجتمع الدولى، والاتحاد الأفريقى هو المعيار الوحيد للارتياح أو القلق، أو للاطمئنان أو الشك أو لقبول الحل التفاوضى أو اللجوء إلى طرق أخرى.
لماذا يساور البعض «القلق» أو «الارتياح المؤقت المعلق»؟، بالتأكيد هناك أسباب موضوعية يمكن إجمالها على النحو التالى:
1- قبيل إعلان مساء الجمعة عن قيام إثيوبيا بالتعهد بعدم ملء السد قبل إنجاز الاتفاق النهائى بـ48 ساعة أعلن وزير الخارجية الإثيوبى بشكل علنى ورسمى تصريحاً مناقضاً قال فيه لوكالة الأنباء الألمانية: «إن إثيوبيا تعتزم البدء فى ملء بحيرة السد حتى دون الاتفاق مع مصر والسودان فى هذا الشأن»، وأضاف بعدها: أنه «يستغرب قيام مصر بإحالة الموضوع إلى مجلس الأمن الدولى على أساس أن المسألة هى أمر سيادى وفنى تختص به إثيوبيا».
2- جاء بيان يوم الجمعة، قبيل 72 ساعة من جلسة طارئة وخاصة لمجلس الأمن الدولى وافق على عقدها الـ15 عضواً، بناء على طلب من مصر لبحث الموقف الإثيوبى من المفاوضات، فماذا حدث خلال الساعات الأخيرة من متغير رئيسى سوى عقد هذه الجلسة ومعرفة أديس أبابا بأنه فى حال عقد الجلسة فإن الإدانة آتية لا ريب فيها.
3- وذاكرتنا ليست «ذاكرة السمكة»، بمعنى أنها تنسى كل شىء وأى شىء، فما زالت صدمة عدم توقيع إثيوبيا على مسودة مفاوضات واشنطن حاضرة، رغم أنها ناقشت بإسهاب كل حرف وكل فقرة فيها وأبدت موافقتها عليها أمام مصر والسودان، وأمام كافة المرافقين وأمام راعى هذه المفاوضات وهو الرئيس دونالد ترامب شخصياً.
إذن نحن هنا أمام أسباب موضوعية تجعلنا ندقق فى التصريح الإيجابى للغاية الصادر من أديس أبابا مساء الجمعة، ولكن أمامنا، كما ذكرنا 3 عناصر:
1- موعد التصريح.
2- الرفض الإثيوبى السابق.
3- موقفهم فى مفاوضات واشنطن فى يناير الماضى.
يضاف لذلك كله، بداية خيوط وتطوراتها التى تجعل أمثالى يتمنون أن تكون كل مخاوفى هى مجرد «خزعبلات ومخاوف غير مبررة»، وأن يكون السلوك الإثيوبى طياً لصفحة الماضى، وبداية علاقة صادقة وإيجابية وعفا الله عما سلف.
ولكن ما هو التاريخ المقلق لهذا الملف. دعونى أعرض عليكم حقائق وتواريخ مدققة وأترك الحكم لعقولكم.
هنا قبل أن نعرض لبدايات القصة دعونا نلخص بعض المعلومات الصلبة التى لا تحتوى على حرف واحد من الرأى أو الهوى السياسى:
سد النهضة هو سد تم التخطيط له بشكل جدى، يبلغ ارتفاعه 170 متراً وبعرض 1800 متر، مكون مما يعرف بالخرسانة المضغوطة، له محطات لتوليد الكهرباء، ولدعم السد سيكون هناك خزان بطول خمسة كيلومترات وبارتفاع 50 متراً.
سد النهضة يتكلف 4.5 مليار دولار أمريكى، أى ما يساوى 15٪ من الدخل القومى السنوى لإثيوبيا، يقال إن 20٪ من التكلفة تم تمويلها من بنوك صينية (الصين عضو دائم فى مجلس الأمن الدولى) ويتم تمويل التكلفة المتبقية من خلال سندات حكومية وبتمويل هيئات خاصة.
بدأت الأشغال البدائية والتصميمات فى أبريل 2011، وهو مملوك لما يسمى بشركة «الطاقة الكهربائية الإثيوبية».
عام 1929، هناك اتفاقية تنظم حصص دول حوض النيل، وهى مصر والسودان وكينيا وتنزانيا وأوغندا والتى حددت حصة مصر من بحيرة فيكتوريا.
هنا نتوقف مرة أخرى ونتأمل أحداثاً وتواريخ لا تحمل أى وجهة نظر لا يستطيع أن يدحضها أى عاقل:
فى 2016 تم توقيع 11 اتفاقية تجارة واستثمار بين قطر وإثيوبيا، وهو ذات الوقت الذى بدأت فيه أزمة السد تتفاقم مع مصر.
2- قيام تركيا بإنشاء 150 شركة استثمارية فى إثيوبيا وتشغيل 500 ألف إثيوبى.
3 - قيام شركة تركية متخصصة فى مجال الطاقة والكهرباء بالتعاقد مع الحكومة الإثيوبية لتوريد «احتياجات إثيوبيا فى هذا المجال من محركات ومولدات وتوربينات ومحطات».
4- فى عام 2015 تم توقيع اتفاق بين إثيوبيا وتركيا فى مجال الإنشاءات، وجاء فى نص الاتفاق أن أديس أبابا تستعين بالخبرة التركية فى تصميم وإنشاء السدود وتصدير المياه والاستثمار فى هذين المجالين.
5- تبلغ الاستثمارات التركية فى أفريقيا أكثر من 6 مليارات دولار، منها 2.5 مليار فى إثيوبيا وحدها، رغم أن أنقرة قامت بزيادة عدد سفاراتها فى أفريقيا من 13 إلى 41 سفارة.
تعتبر تركيا ثانى أكبر مستثمر فى إثيوبيا وتعتبر إثيوبيا رابع شريك تجارى لتركيا.
تعهدت تركيا باستصلاح 1.5 مليون فدان فى إثيوبيا بعد إنجاز سد النهضة.
قام رئيس وزراء إثيوبيا بزيارة لقطر وتم توقيع اتفاقين، الأول تجارى والثانى عسكرى.
هذه كلها أمور لا تنكرها قطر أو تركيا أو إثيوبيا، بل إنها أذاعتها رسمياً، إذن لا مجال لأى تفسير يعتبر تآمرياً من جانب من يشعر بأى قلق أو لديه أى شكوك حول هذا الملف.
هنا نأتى إلى وثيقة جاءت على موقع «قطرليكس»، الذى تديره المعارضة القطرية، يقول: (والعهدة على الموقع) إن وفداً أمنياً قطرياً تركياً مشتركاً سافر إلى أديس أبابا أثناء مفاوضات واشنطن حول سد النهضة، وهدد القيادة السياسية فى إثيوبيا بسحب مجموع ودائع البلدين فى البنوك الإثيوبية والمصرف المركزى، البالغة 6 مليارات فى حال إبرام اتفاق سريع مع مصر والسودان.
وجدير بالذكر أن الخصومة والعداء الآن لم يعدا على مصر وحدها ولكن على السودان أيضاً بعد سقوط حكم البشير، وإلغاء الحكم الجديد اتفاق إقامة قاعدة سواكن التركية، ورفض الحكم العسكرى -وقتها- استقبال وزير الخارجية القطرى، ثم توافق موقف الخرطوم مع القاهرة فى المفاوضات، بعدما كان حكم البشير الإخوانى أكبر مصدر لمشكلات الجانب المصرى فى المفاوضات.
هذا كله يصل بنا إلى 3 تساؤلات مشروعة وجوهرية:
1- هل يمكن بعد كل ما سبق عرضه، من تاريخ وممارسات، الثقة فى أى تعهد شفهى أو مكتوب، ثلاثى أو بضمانات دولية من الجانب الإثيوبى؟
2- هل تحتوى الاتفاقية صراحة، وبما لا يدع مجالاً للشك أو الاختلاف، بنداً صريحاً يفصل «آلية فض المنازعات» فى حال الخلاف أو المماطلة أو الإضرار المتعمد من جانب أى طرف تجاه الأطراف الأخرى؟
3- إلى أى حد يتم الوثوق فى استقلالية القرار الإثيوبى المرتبط بمصالح تركية قطرية تقف فى موقف شديد العداء لمصر فى كافة الجبهات ومنها جبهة ليبيا؟
أطرح السؤال مباشرة: إذا اضطرتنا الأوضاع إلى دخول حرب الضرورة فى الساحة الليبية ألا يمكن استخدام ورقة ضغط بسد النهضة على مصر وسط ذروة المعارك؟؟
فكروا جيداً فيما قلت وأدعو الله أن تكون كل مخاوفى خاطئة تماماً.