مَــــن يُـــــمــــثِّـــــلُ الــــنــــاسَ

مَــــن يُـــــمــــثِّـــــلُ الــــنــــاسَ؟

مَــــن يُـــــمــــثِّـــــلُ الــــنــــاسَ؟

 صوت الإمارات -

مَــــن يُـــــمــــثِّـــــلُ الــــنــــاسَ

بقلم - سجعان القزي

قبلَ أن يُسيطرَ القادةُ السياسيّون عمومًا على الناس، فليُسيطِروا على أنفسِهم أوّلًا ويَلجُموا نزواتِهم وجموحَ طموحاتِهم لتتألّفَ الحكومة. إنَّ شهوةَ السيطرةِ هي تعبيرٌ عن فقدانِ سيطرةِ الشخصِ على أهوائِه. وإذا كان أحدُ أهدافِ وضعِ القوانينِ هو إبقاءُ تَصرُّفِ المواطِن في إطارِ النظامِ العامّ، فأحدُ أهدافِ وضعِ الدساتير هو إبقاءُ الحاكمِ ضِمنَ حدودِ الدولة، فلا يَستأثرُ بالسلطةِ وبالشعب. وأصلًا هذا هو الفارقُ بين المجتمعِ الحضاريّ والمجتمعِ الهمجيِّ، وبين النظامِ الديمقراطيِّ والنظامِ الديكتاتوريّ. وحَسبَ عِلْمي، نَشأَت دولةُ لبنانَ لتكونَ مجتمعًا حضاريًّا ونظامًا ديمقراطيًّا.

في الأنظمةِ الديمقراطيّةِ، الانتخاباتُ النيابيّةُ هي المعيارُ الأساسيُّ للتمثيلِ الشعبيِّ أكان القانونُ أكثريًّا أم نسبيًّا، وأكانت الدوائرُ محافظَةً أم قَضاءً، لكنَّ صُحَّةَ هذا التمثيلِ تبقى رهنَ نزاهةِ العمليّةِ الانتخابيّةِ ونسبةِ الاقتراع. والنزاهةُ لا تَقتصِرُ على عدمِ نقلِ أصواتِ مرشَّحٍ إلى مرشَّحٍ آخَر، بل هي أَداءٌ متكامِلٌ يبدأ مِن وضْعِ قانونِ الانتخابات، إلى شروطِ الترشيحِ والسقوفِ الماليّةِ والمساواةِ في الإعلانِ والإعلام، مرورًا بملابساتِ تأليفِ اللوائحِ ودورِ السلطةِ الحاكِمةِ أو القِوى المتُحكِّمةِ بالمناطقِ، وصولًا إلى يومِ الاقتراعِ وإعلانِ النتائجِ النهائيّة.

وأيُّ انتخاباتٍ لا تَخضعُ نتائجُها لهذه المعاييرِ الدستوريّةِ والقانونيّةِ والأخلاقيّةِ المعتَرفِ بها عالميًّا، مطعونٌ فيها سياسيًّا وشعبيًا سلفًا، وإن لَـم يَطعَن أحدٌ فيها دستوريًّا لألفِ سَببٍ وسَبب. واللافتُ أنَّ دعاوى الطعنِ أمامَ المجلسِ الدستوريِّ اليومَ، تَطالُ الحَصادَ وليس الزَرعَ، أي النتائجَ وليس مسارَ الانتخاباتِ المحفوفَ بالمخالفاتِ القاتِلة.

في لبنان، حيثُ الانتخاباتُ خالفَت القواعدَ العامّةَ والعالميّةَ المذكورةَ أعلاه، أصبحَ التمثيلُ النيابيُّ، بالتالي وحُكمًا، غيرَ كافٍ ليدَّعيَ الفائزون حَصريّـةَ تمثيلِ الناس، ولِـيُنكِروا الصفةَ التمثيليّةَ على أفرقاءَ آخَرين ومراكزِ قرارٍ أُخرى.

ولقد كَشفَت الانتخاباتُ أنَّ سبعةَ نوّابٍ جَنوبيّين وثلاثةً شماليّين فقط، نالوا في الصوتِ التفضيليِّ بين 36% و 86% من مجموع الناخبين في دوائرِهم، فيما حصلَ الفائزون الآخَرون على نسبٍ تراوحَت بين 0.4% و 19%، وهي حصيلةٌ ضئيلةٌ جدًّا كالفَوزِ بفَضْلِ "رَكْلةِ جَزاء". وإذا كان من الطبيعيِّ أن يفوزَ هؤلاءِ على أخَصامِهم، فمن غير الطبيعيِّ أن يدَّعوا تمثيلَ ألــــ 100% من الناس. إنَّ النوابَ يُمثّلون ناخِبيهِم لا المواطنين، وإذا كان كلُّ ناخبٍ مواطِنًا فليس كلُّ مواطنٍ ناخبًا.

حتّى في الدولِ الديمقراطيّةِ فعلًا، حيث الانتخاباتُ نزيهةٌ كَـالْـبِـلَّــوْر، تعاني الشعوبُ من محدوديّةِ الصفةِ التمثيليّةِ السياسيّةِ الناتجةِ عن الاستحقاقاتِ الانتخابيّةِ التقليديّة. وما المفاجآتُ الانتخابيّةُ التي تَشهدُها دولٌ عريقةٌ بديمقراطيّتِها سوى تعبيرٍ عن البحثِ ـــ الصادمِ أحيانًا ــــ عن تمثيلٍ آخَر. يكفي أن نَسترجِعَ نجاحَ "تسيبراس" في اليونان، و"ترامب" في أميركا، و"ماكرون" في فرنسا، و"كورتس" في النمسا، وخِيارَ "البريكست" في إنكلترا، إلخ... لنتأكّدَ من حالةِ التمردِّ على المألوفِ والتقليديِّ والـمُكَرَّرِ والجمودِ الحزبيِّ والمؤسَّساتي. إنها رسائلُ الشعوبِ إلى ما يُسَمّى بالـــ"اسْــتَــبْــلِشْمِنْت" establishment.

بانتظارِ ابتكارِ نظامٍ بديلٍ أو آليّةٍ تُصحِّحُ رتابةَ التمثيلِ الانتخابيِّ ومحدوديّتَه، تَبتدعُ تلك الدولُ هيئاتٍ تمثيليّةً موازيةً ورديفةً وإضافيّةً لتَضمَنَ شموليّةَ التمثيلِ الشعبيّ. مع العولمةِ واللُوبي والاختصاصِ ودورِ المؤسّساتِ الصناعيّةِ والمصرِفيّةِ والمعلوماتيّةِ الكبرى وبعد سقوطِ الأنظمةِ الشيوعيّة، باتت الديمقراطيّةُ إطارًا يَضمَنُ الحريّات أكثرَ من نظامٍ يَضمَنُ حُسنَ التمثيلِ السياسيّ والقِطاعيّ.

ما عدا الحماسةِ لانتخاباتٍ تَتمحّورُ حولَ خِياراتٍ مصيريّةٍ كدخولِ فرنسا إلى "اتفاقِ ماستريخت"، وانفصالِ "سكوتلاندا" عن بريطانيا، وحصولِ الـــ"مونتِنغرو" على الاستقلالِ الذاتيّ، وانسحابِ الجيشِ السوريِّ من لبنان، وخروجِ بريطانيا من الاتحادِ الأوروبيِّ، تحوّلَ الاقتراعُ في الأنظمةِ الديمقراطيّةِ ممارسةً تقنيّةً متثائبةً بعدما كان، في ما مضى، خِيارًا وطنيًّا تحديدًا. والدليلُ ظاهرتان: الأُولى: ما إن تَنتهيَ الانتخاباتُ التشريعيةُ أو الرئاسيّةُ، حتّى يبدأَ الناخبون بالتأفّفِ والمعارضةِ والتظاهرِ، كأنَّ خِياراتِهم لم تكن لا سياسيّةً ولا ثابتةً. والأُخرى: تَدنّي نِسبةِ الاقتراعِ في العالمِ مقابلَ ارتفاعِها في هيئاتِ التمثيلِ المدنيِّ والنِقابيّ.

لم يَعُد التمثيلُ السياسيُّ وحدَه يلبّي أحلامَ الناسِ وطموحاتِهم. صارت الأجيالُ ترى نفسَها في غيرِ الزعماءِ والنوّابِ والوزراءَ والرؤساءَ. صارت ترى نفسَها في مَن يُديرُ العالمَ لا في مَن يَحكُمُه. صارت ترى نفسَها في مؤسِّسي "غوغل" و"ڤيسبوك" و"آپل" و"آيفون"، في الكتّابِ والصحافيّين، في المصرفيّين ورجالِ الأعمال، في النقابيّين والناشِطين اجتماعيًّا، في الفنّانينَ والرياضيّين، في الباحثينَ والـمُبدعين، في صانعي الخيرِ والبِرِّ، في حائزِي جوائزِ "نوبل" و"پولِتزِر" و"ﻏونكور"، في مُنقِذي الأطفالِ من الغرَقِ والحرائقِ والأعاصير. هؤلاءِ يُقدِّمون إلى البشريّةِ السلامَ الداخليَّ، فيما السياسيّون يُقِّدمون القلق. هؤلاءِ يَنقُلونَنا من نورٍ إلى نور، فيما يُبقينا أصحابُ الصفةِ التمثيليّةِ في لبنان بين مَكَـبَّـيْ "برج حمود" والـــ"كوستابرافا".

وإذا كان نفوذُ السياسيّين في لبنانَ ـــ كما في العالمِ المتخلِّف ـــ لا يزال قويًّا، فليس بفضلِ صفتِهم التمثيليّةِ، بل لأنَّ الشعبَ المقيمَ يَعيشُ خارجَ هذه التطوّراتِ العالميّةِ العظيمةِ، ولأن الدولةَ لم تُوفِّر للمُبدعينَ اللبنانيّين فُرصَ الإبداعِ والشُهرة. هكذا، وَقَعنا كشعبٍ ـــ اضْطِرارًا ـــ في الولاءِ للمُبدعين الأجانب، بموازاةِ ولاءِ السياسيّين ـــ خِيارًا ـــ للخارج.

ورغمَ ذلك، يأتي من يريدُ أنْ يُقرِّرَ في الظلامِ تمثيلَ شعبٍ يَصمُد في النورِ منذ ألفَي سنةٍ، وفي التاريخِ منذُ ستّةِ آلافِ سنةٍ، وفي هذه الجبالِ منذ ألفٍ وسِتِّمائة سنةَ! لا الرسلَ ولا الأنبياءَ ولا الكنيسةَ، ولا حتى يسوعَ المسيحِ احتكروا تمثيلَ المسيحيّين ("فإنْ حرَّركُم الاِبنُ فبالْحقيقةِ تكونونَ أَحرارًا" ـــ إنجيلُ يوحنا)، و ("كلُّ الأشياءِ تَحِلُّ لِي لكنْ لا يتسلَّطُ عليَّ شيءٌ" ـــ مار بولس إلى الكورنثيّين).

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مَــــن يُـــــمــــثِّـــــلُ الــــنــــاسَ مَــــن يُـــــمــــثِّـــــلُ الــــنــــاسَ



GMT 13:47 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

العودة للمدارس

GMT 13:47 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

هلا.. بالمدارس

GMT 13:45 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

لأمهات الشهداء.. ألف.. ألف تحية

GMT 13:44 2018 الأحد ,02 أيلول / سبتمبر

وقل "ليتني شمعة في الظلام"!

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 06:14 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين
 صوت الإمارات - العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates