ظهورُ الشيوعيّةِ في لبنان

ظهورُ الشيوعيّةِ في لبنان

ظهورُ الشيوعيّةِ في لبنان

 صوت الإمارات -

ظهورُ الشيوعيّةِ في لبنان

سجعان قزي
بقلم : سجعان قزي

مع تشريعِ قانونِ “الكابيتال كونترول”، يولَدُ في لبنان أوّلُ حالةٍ شيوعيّةٍ جديدةٍ بعد سقوطِ الشيوعيّةِ العالميّةِ سنةَ 1991. مَذمَّةٌ أن يُصبحَ لبنان أوّلَ نظامٍ شيوعيٍّ في القرنِ الحادي والعشرين، وقد كان لبنانُ أوّلَ نظامٍ ليبراليٍّ في العالمِ العربيِّ في بدايةِ القرنِ العشرين. سَمِعوا الكلمةَ واتَّجَهوا بنا شرقًا شرقًا أكثرَ مِـمّا أرْشَدَ إليه أمينُ عامّ “حزبِ الله”. نعيش على الأيّامِ والمآسي. نُختارُ ولا نَختار. تَدَجَّنَّا على السَجِيّة. البعضُ أصبح لبنانيًّا من دون أن يريد. والبعضُ بات عروبيًّا من دون أن يؤمن. والبعضُ أمسى فارسيًّا من دون أن يدري. وجميعُنا صِرنا شيوعيّين ولم نُرِدْ، ولم ننَتفِضْ. يا عارَ الأجيال.

وأيُّ شيوعيّة؟! غايةُ الشيوعيّةِ في مفهوم كارك ماركس هي سعادةُ الإنسان. أما في “الواقعِ الشيوعيِّ” اللبنانيِّ فهي شقاوةُ الإنسان. قد لا تكونُ هيكليّةُ النظامِ اللبنانيِّ شيوعيّةً، لكنَّ نظامَ عَيشِ اللبنانيّين هو نظامُ الشعوبِ في الدولِ الشيوعيّة السابقة. تقنينُ الماءِ والكهرباء، حِصَصٌ غذائيّةٌ، اختفاءُ الأدويةِ، نَزْرٌ في المحروقات، نقضٌ في الموادِّ الحياتيّةِ، اختلالُ نظامِ العرضِ والطلب، انتعاشُ السوقِ السوداءِ والتهريب، فِقدانُ العُملاتِ الأجنبيّة، غيابُ الرقابةِ باستثناء الرقابةِ البوليسيّة. كسادٌ وفسادٌ واستبداد، إلخ…

اليومَ سَقط لبنانُ لأن الحريّةَ سَقطت، ومعَها لَفظَت الديموقراطيّةُ أنفاسَها. فلِـمَ بعدُ الانتخاباتُ النيابيّةُ والرئاسيّةُ؟ ولِــمَ تداولُ السلطةِ فيما الديموقراطيّةُ أَفَلت. رغم ذلك، هناك من يواصِلُ إنكارَ الواقعِ الانقلابيِّ في لبنان ويُقارِب الأزمةَ الحكوميّةَ كأنّها خلافٌ على ثلثٍ مُعطِّلٍ ووزيرَين مسيحيَّين، إلخ… أخطرُ الانقلاباتِ هي الانقلاباتُ غيرُ العسكريّة. وأسوأُ الانقلاباتِ هي تلك التي تَكتمِلُ قبلَ أن تُعلَن. وأقبحُ الأنظمةِ هو النظامُ الهجين. وأتعسُ الأحكامِ هو الحكمُ الذي يَلتبِسُ عليه الفارقُ بين الضعفِ والقوة، وبين الفشلِ والنجاح، ويَختلِطُ عليه الفرقُ بين هزيمةِ “واترلو” وانتصارِ “أوسترليتز”.

شبحُ المؤامرةِ حاضرٌ في كلِّ تحليلٍ يَتناول انهيارَ لبنان: يَتقصّدون تهريبَ المخدّراتِ إلى السعوديّةِ دونَ غيرِها ليَقطَعوا عَلاقاتِ لبنان معَها ومعَ دولِ الخليج. يَمنعون تأليفَ حكومةٍ لإحداثِ فراغٍ في رئاسةِ الحكومة. يُعرقلون المبادرةَ الفرنسيّةَ لعزلِ لبنانَ عن أوروبا والغربِ عمومًا. يُحظِّرون إجراءَ إصلاحاتٍ لكي يَحولوا دونَ أن تُقدِّمَ المؤسّساتُ الدُوليّةُ والدولُ المانحةُ المساعداتِ الماليّة. يرفضون دفعَ مستحقّاتِ لبنان الخارجيّةِ لضربِ مصداقيّةِ المصرِف المركزيِّ ونظامِ المصارفِ والنقدِ اللبنانيّ. وسيواصلون هذا السلوكَ التدميريَّ حتى يُصبحَ لبنانُ بأسْرِه حُطامًا مثلَ مرفأ بيروت…

ظَلَّ النظامُ الليبراليُّ اللبنانيُّ صامدًا طَوالَ مئةِ عامٍ رُغمَ الحروبِ العسكريّةِ والحوادثِ الأمنيّةِ والأزَماتِ السياسيّةِ والاجتياحاتِ الغريبةِ والاحتلالات. قَهَر الجميع. عَبَرَ وحيدًا خطوطَ التماس واجْتاز الجبَهات. “قُبّتُه الحديديّةُ” اعترضَت جميعَ الصواريخِ التي اسْتهدَفته. وكانت ورَقةُ الليرةِ الرقيقةُ الحائطَ الإسْمنتيَّ الفاصلَ بين الصمودِ والسقوط، وإذ بها تَسقطُ اليومَ لأنّها، هذه المرّةَ، “تذاكَتْ” واشتركَت بالانقلابِ على نفسِها من خلال “لواءِ المصارف”. هذه الحربُ الاقتصاديّةُ التي تُشَنُّ على لبنان يَشتركُ فيها الشقيقُ والصديقُ مع العدوِّ، ويَتواطأ معهم أطرافٌ لبنانيّون، وهُمُ الأخطر، كأنَّ سقوطَ لبنان انتصارٌ لهم. لا قيمةَ لتغييرِ النظامِ على جثةِّ الوطن. لا قيمةَ لبلوغِ المناصبِ على أجسادِ الناس. لا مُتعةَ بالرقصِ على سطوحِ المقابر. اخْجَلوا، واغْرُبوا وانْزَحوا عن صدرِ هذا الشعب، وعن عظمةِ هذا الوطن. ليس لبنانُ الكبير حيًّا في ضميرِ الجميع، لكنْ حين سيغيبُ سيَبقى اغتيالُه جريمةً في أعناقِ الجميع.

لم نَعد نعيشُ في منطقِ دولةِ القانون، ولا في منطقِ الحياةِ الحزبيّة، ولا في منطقِ تَعدُّدِ الطوائف، ولا في منطقِ الثورة. نعيشُ في منطقِ الغزَوات الدستوريّة. الدولةُ سَلّمَت دستورَها وقوانينها وأجَّرَت شرعيّتَها. أكثريّةُ الأحزابِ انكَفأت عن دورِها التاريخيّ. بعضُ الطوائف أضاف إلى تعدُّديّتِه الدينيّةِ تعدّديّةً مذهبيّة. بموازاةِ ذلك، جميعُ الشرعيّاتِ تَترنّحُ في لبنان بدرجاتٍ متفاوتة. الشرعيّةُ التمثيليّةُ (مؤسّساتُ المجتمعِ والبلدياتُ والنقابات)، والشرعيّةُ المنتخَبةُ (رئاساتُ الجمهوريّةِ والمجلسِ النيابيِّ والحكومة)، والشرعيّةُ الدستوريّةُ (مؤسّساتُ الدولةِ وسلطاتُها الإداريّةُ والقضائيّةُ والماليّةُ والأمنيّة). حتى أثناءِ الحربِ على لبنان، كانت البلادُ منقسمةً شرعيّتين: شرعيّةُ الدستور وشرعيّةُ الأرض. أما اليوم فلا هذه ولا تلك.

لم يعد لبنانُ ثماني عَشَرةَ طائفة. صار مُختَصَرًا بمكوِّنَين متعدِّدَيْ الطوائف: واحدٌ يَضُمُّ مواطنِين طائفيّين ومُنقسِمين حولَ لبنان كأنهم لا يزالون سنةَ 1920. وآخَرُ يَضُمُّ مَن ساروا بلبنان 1920 حتى 2021، وهؤلاءِ هُم مواطنون تخطّوا الانقسامَ الطائفيَّ وتَعدّدَ الولاءات وحَقّقوا رِهانَ سنةَ 1920. نحن إذن أمامَ سُرعتَين زمنيّتين ومستويَين وطنيَّين. وإذا كانت هاتان السُرعتان مؤشِّرًا سلبيًّا، فالإيجابيّةُ في أنَّ الّذين بَلغوا بلبنان حتّى 2021 يَنتمون إلى مختلِفِ الطوائف. خمسةُ أحداثٍ وحّدت المسلمين والمسيحيّين: الأوّلُ هو الواحدُ والعشرون يومًا بين انتخابِ بشير الجميّل واغتيالِه. الثاني هو يوم تحريرِ الجَنوب في 25 أيار (مايو) 2000. الثالثُ هو مصالحةُ الجبل سنةَ 2001. الرابعُ هو الثلاثون يومًا بين 14 شباط (فبراير) (اغتيال رفيق الحريري) و14 آذار (مارس) 2005 (“ثورة الأرز”). والخامسُ هو انتفاضةُ 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019. غير أنَّ الوِحدةَ التي تَجلّت يومَ تحريرِ الجنوب ذَهبت أدراجَ الرياح لأنَّ “حزبَ الله” شيّعَ التحريرَ وأبقاه خارجَ شرعيّةِ الدولة ووَظّفه في مشروعِ هَيمَنةٍ على البلاد. كما أنَّ الوِحدةَ التي بَرزت أثناءَ الحَراكِ الشعبيِّ تَبدَّدت حين أُضيفَت إلى المطالبِ الاجتماعيّةِ المواقفُ الوطنيّة، وتحوّلَت المجموعاتُ المُنتَفِضةُ مجموعةَ أحزابٍ بلا قواعدَ من دونِ المرورِ بالثورة.

مهما كان وضعُ لبنان، فرصةُ النهوضِ باقيةٌ أكثرَ من أيِّ يومٍ مضى. فها فرنسا تدعو إلى مؤتمرٍ لدعمِ الجيشِ اللبنانيِّ في 27 حزيران (يونيو) الجاري، وها قداسةُ البابا فرنسيس يدعو إلى لقاءٍ من أجلِ لبنان في أوّلِ تموز (يوليو) المقبل. هناك أملٌ للّذين يؤمنون بالأمل. وهناك مستقبلٌ للّذين يؤمنون بالمستقبل. وهناك شِفاءٌ للّذين يؤمنون بالشِفاء. وهناك انتصارٌ للّذين يؤمنون بالانتصار. وهناك قيامةٌ لِمَن يؤمنون بالقيامة.

لكنّ إنقاذَ لبنان، المُنقَسِمِ بين مُكوّناتِه، قلّما كان فعلاً جَماعيًّا. كان هناك دائمًا فريقٌ مُبادِر. وكان هذا الفريق يُجيِّرُ، عمومًا، انتصاراتِه وإنجازاتِه إلى الشعبِ كلِّه وللوطنِ والدولة. لو انتظرنا الإجماعَ لَـمَا كان لبنانُ الكبير، ولا الاستقلالُ، ولا المقاومةُ اللبنانيّةُ، ولا المقاومةُ الإسلاميّةُ، ولا كانت المنظمّاتُ العسكريّةُ الفلسطينيّةُ خَرجَت، ولا الجيشُ السوريُّ، ولا القوّاتُ الإسرائيليّة. حبّذا لو يُطِلُّ أحدٌ ويبادرُ ويُنقذُ لبنان. وجريمةٌ أن يكون هذا الــ”أَحدُ” موجودًا ولا يُبادر.

سجعان قزي هو كاتب، صحافي، مُحلّل سياسي ووزير لبناني سابق*

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ظهورُ الشيوعيّةِ في لبنان ظهورُ الشيوعيّةِ في لبنان



GMT 23:00 2021 الخميس ,10 حزيران / يونيو

الجيش اللبناني ما له وما له

GMT 23:53 2021 الثلاثاء ,08 حزيران / يونيو

أخبار من السعودية وفلسطين والصين

GMT 23:45 2021 الثلاثاء ,08 حزيران / يونيو

الكِفاحُ من أجل المناخ هو مِفتاحُ إنعاشِ العراق

GMT 09:33 2021 الأربعاء ,12 أيار / مايو

العلاقات السعودية - الايرانية… وبيل غيتس

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 22:24 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:01 2017 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار السجائر في الإمارات بعد تطبيق الضريبة الانتقائية

GMT 12:14 2020 الإثنين ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأثنين 30 تشرين الثاني / نوفمبر2020

GMT 07:44 2019 الجمعة ,06 كانون الأول / ديسمبر

تامر حسني يعلن موعد عرض فيلم "الفلوس"

GMT 12:06 2018 السبت ,13 تشرين الأول / أكتوبر

دندن يبحث سبل تعزيز التعاون مع جمعية الشارقة الخيرية

GMT 16:46 2016 الثلاثاء ,09 شباط / فبراير

تخفيض دائم على سعر جوال "OnePlus 2" إلى 349 دولار

GMT 08:23 2016 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

توزيع جوائز القصة القصيرة بالتعاون مع مؤسسة "بتانة" الثقافية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates