أن تُعيد السلطات الإسرائيلية مواطناً فلسطينياً أو أردنياً، أو زائراً من دولة ثالثة، إلى الطرف الآخر من "الجسر" الواصل بين "الضفتين"، فهذا أمرٌ مألوف، يحدث دائماً، وربما يحدث كل يوم. لكن حين يكون هذا "الزائر"، مواطنا أردنيا، بمرتبة "ولي عهد" البلاد وملكها القادم، فهذا أمرٌ غير مألوف، لم يحدث من قبل، ولم يكن أحداً ليتخيل حدوثه.
كان من المقرر، وفقاً لأجندة الأمير الحسين، أن يقضي ولي عهد المملكة ليلة الإسراء والمعراج في المسجد الأقصى، وأجرت مؤسسات الدولة السيادية اتصالاتها لترتيب اللازم. ووفقاً لوزير خارجية الأردن، أيمن الصفدي، فقد اتفق الجانبان، الأردني والإسرائيلي، على كافة تفاصيل الزيارة، من أمنية وبروتوكولية بالطبع. ثم، يتوجه الأمير بموكبه للجسر، من دون أن ينجح في عبوره إلى الضفة الأخرى، بسبب خلافٍ نشب بين الجانبين في اللحظة الأخيرة، فيقفل عائداً من حيث أتى.
جسر واحد، روايتان وثلاثة أسماء
و"الجسر" الذي نتحدث عنه، له ثلاثة أسماء، تصدر عن ثلاثة أطراف، يحمل كل واحدٍ منها معنىً، هو الأثير إلى "قلبه" و"سرديته". فهو إسرائيلياً، "جسر اللنبي"، نسبة إلى الجنرال البريطاني، إدموند هنري اللنبي، الذي احتل المدينة منهياً سيطرة العثمانيين عليها، والممتدة لأربعمئة عام (1517 – 1917)، وليَدخلها سيراً على قدميه من بوابة الخليل، مطلقاً صيحته المشهورة" الآن انتهت الحروب الصليبية".
والجسر فلسطينياً، هو "معبر الكرامة"، تيمناً على ما يبدو، بمعركة الكرامة (آذار 1968) التي تُعد في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، "الانطلاقة الثانية" لحركة فتح والثورة الفلسطينية المعاصرة، بعد صمود وقتال بطوليين في مواجهة القوة الإسرائيلية الغازية، خاضته إلى جانب وحدات من الجيش الأردني.
والجسر أردنياً، هو "جسر الملك حسين" تيمناً بالملك الراحل، الذي ورث عن جده وأبيه، "وحدة الضفتين"، قبل أن يخسر إحداهما في حرب حزيران 1967، ومن ضمنها القدس الشرقية، التي تضم في جنباتها المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وعشرات المواقع الإسلامية والمسيحية، ذات الأثر الديني والتاريخي والتراثي، عظيم الأهمية.
أما الروايتان لواقعة إلغاء زيارة الأمير، فتقول الإسرائيلية منها، أن الجانب الأردني تجاوز حد الاتفاق، وأرسل بمزيد من عناصر حماية ولي العهد، وهي واقعة، بصرف النظر عن صدقها من كذبها، لا تفسر اندلاع أزمة دبلوماسية كهذه، ففي ظروف أخرى، ومع رئيس حكومة آخر في إسرائيل، كان يمكن لهذه المسألة أن تُحلَّ بمكالمة هاتفية واحدة، بدقيقتين اثنتين، لا أكثر. لكن لٌبّ المشكلة كما سيتضح، يقع في مكان آخر.
أما الرواية الأردنية فتقول: إن الأمير ذهب للصلاة في المسجد الأقصى، مع المصلين الفلسطينيين، وتحت حراسة وحدات حمايته الخاصة، فلا معنى لصلاته إن مُنِع الفلسطينيون من أداء الصلاة في مسجدهم، وبهذه الليلة المباركة. ولا معنى للوصاية الهاشمية على المسجد، إن كان يتعين "إعادة احتلاله" وتحويله إلى ثكنة عسكرية إسرائيلية، بزعم حماية أمير هاشمي، هو في أصل معاهدة السلام، واتفاق (2013) بين الملك عبد الله الثاني والرئيس محمود عباس، "الوصي" و"الراعي" للأماكن الإسلامية المقدسة، تكريساً لـ"عهدة" ممتدة لأزيد من مئة عام.
ووفقاً للرواية الأردنية، يبدو أن إسرائيل قبلت بالزيارة، ويبدو أنها قبلتها شريطة إتمامها، بما يكرس "سيادتها" على المسجد، ويُفرغ "الوصاية" من معانيها، والأهم، بنيّة زرع بذور "أزمة ثقة" بين المقدسيين والهاشميين، بمنعها ألوف المصلين الفلسطينيين من الوصول إلى باحات المسجد وساحته، وتركها شبه فارغة للأمير وصحبه، ودائماً بحجة حماية الزائر الكبير (؟!).
"رد الصاع صاعين"
لعلها الصدفة، أن عودة الأمير الحسين عن زيارته للأقصى، سبقت بساعات، زيارةً، استمات بنيامين نتانياهو لإتمامها للإمارات بعد تأجيل لثلاث مرات، ولدوافع انتخابية لا تخفى على أحد، فحملته الانتخابية، بأمس الحاجة لصورة إضافية، تلفت بها انتباه جمهور الناخبين. وفي المعلومات، أن نتانياهو ضغط بقوة على ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، لاستقباله ولو لساعة واحدة، وفي إحدى قاعات مطار أبو ظبي، طالما أن الهدف التقاط صورة مشتركة، يلقي بها في صناديق الاقتراع.
وجد الأردن، اللحظة مناسبة لرد الصاع صاعين، فأحجم عن منح الإذن للطائرة التي كانت ستُقله، للمرور بأجوائه، ولم يصدر هذا التصريح، إلا بعد أن بات إتمام الزيارة أمراً متعذراً.
ما بدا أنها رحلة "انتخابية بامتياز" للإمارات، انتهى إلى أزمة في علاقات إسرائيل بالأردن، في انقلاب فوري للسحر على الساحر، من المستبعد أن تنتهي مفاعليه بالتوضيحات التي صدرت عن نتانياهو بالاتجاهين: أنهيت الأزمة مع عمان في غضون ساعات، وتوافقت مع محمد بن زايد على زيارة قريبة لأبو ظبي، واستجلبت استثمارات إماراتية بقيمة عشرة مليارات دولار.
رسمياً، انتهت أزمة إلغاء الزيارتين، ولا ندري ما إذا كان نتانياهو سيعاود الضغط على الإمارات لإتمام زيارته لها قبل الانتخابات (23 مارس الجاري)، أم أن عامل الوقت، لم يعد يسعفه لفعل ذلك. كما أننا لا ندري، ما إذا كان "القصر الملكي"، سيعاود التخطيط لمحاولة ثانية يقوم بها ولي العهد لزيارة الأقصى، أم أن هذا الفصل قد طوي تماماً، سيما وأن كثير من المراقبين في عمان انتابتهم الدهشة من فكرة الزيارة غير المسبوقة ابتداءً، وما يمكن أن تثيره من تكهنات وتأويلات لاحقة، وما قد ترتبه من ردود فعل في الأردن وفلسطين، فالقدس والأقصى، تحت الاحتلال، وأية زيارة ستخضع لموافقاته وترتيباته، وكيف يمكن النظر إليها، في لحظة إقليمية تميزت بازدياد وتائر التطبيع العربي – الإسرائيلي، الذي جاء من فوق ظهر الأردن، وعلى حساب أدواره التقليدية، ومكانته في الإقليم.
وقد يقول البعض، إن منع نتانياهو من العبور في الأجواء الأردنية قد امتص ما يمكن أن يكون ردود فعل سلبية على زيارة الأمير للأقصى، فالأردن بدا أمام ناظريه، قادراً على "رد التحية بمثلها"، إن لم نقل ردّ الصاع صاعين. وهذا بحد ذاته، حال دون احتدام الجدل، حول الزيارة، من حيث مغزاها ودلالاتها وتوقيتها.
"مش رمانة...قلوب مليانة"
لن نُعيد سرد تاريخ العلاقة بين نتانياهو و"القصر" في عمان، فقد جئنا على أبرز محطاتها في المقالة الأخيرة (الأسبوع الفائت) على موقع الحرة، وتكفي الإشارة أن هذه الأزمة الدبلوماسية اندلعت في لحظة اندفاع أردنية، لـ"تسليك" قنوات التواصل والحوار مع إسرائيل: زيارة بيني غانتس لعمان، ولقاءات أيمن الصفدي مع غابي أشكنازي على "الجسر إياه". وعلى الرغم من أن الأردن لديه من الأسباب ما يكفي لتجاهل نتانياهو وتحاشي اللقاءات معه والاتصال به، إلا أن "ثعلب السياسة الإسرائيلية" ما كان ليترك "المناكفة" الأردنية تمر من دون عقاب، فقرر عرقلة زيارة ولي العهد، في لطمة جديدة للأردن و"القصر" بعد سلسلة من اللطمات، بدأت في 1997 بمحاولة فاشلة لاغتيال خالد مشعل في شوارع عمان، مروراً بمقتل القاضي الأردني رائد زعيتر على "الجسر"، من مسافة صفر، وبدم بارد (2014)، وليس انتهاء بجريمة قتل مواطنين أردنيين اثنين في السفارة الإسرائيلية في عمان (2017) واستقبال نتانياهو للقاتل استقبال "الأبطال" بدل إرساله للمحكمة والسجن، فضلاً بالطبع عن الخلاف السياسي الأعمق، حول صفقة القرن ومشاريع الضم، بما فيها منطقة الأغوار الممتدة على طول الحدود الأردنية مع الضفة، والتعديات الإسرائيلية المنهجية المنظمة على الدور الأردني في رعاية المقدسات الإسلامية.
وتنهض العلاقة بين نتانياهو وعبد الله الثاني، بوصفها شاهداً على "دور الفرد" في رسم اتجاهات تطور العلاقات الدولية، وتعظيم أو تبديد فرص تحسين العلاقات الثنائية بين بلدين.
فالأردن، حريص على الاحتفاظ بعلاقته مع إسرائيل، بل وتطويرها بوصفها "ركيزة استراتيجيته" في سياسته الخارجية. وإسرائيل في المقابل، وبرغم "انزياحات" طبقتها السياسية صوب اليمين الديني والقومي، الأكثر تطرفاً، ما زالت "تقيم وزناً" لعمان، وللعلاقات الأردنية – الإسرائيلية، برغم تراجع ثقل الأردن وأهميته في الحسابات الإسرائيلية، لكن انعدام "الكيمياء" بين رئيس الحكومة الإسرائيلي والعاهل الأردني، أدخل هذه العلاقات، في أزمات متعاقبة، وربما حكم بعض التوجهات والسياسات الأردنية والإسرائيلية، سواء بسواء.
"القناعة" في عمان، أن نتانياهو رجلٌ لا يقيم اعتباراً لحسابات الأردن ومصالحه وحساسياته، وأنه يتعمد الإساءة للعائلة الملكية بشكل خاص، عبر بوابة "الوصاية الهاشمية على الأقصى"، لتقويض مكانتها وشرعيتها، انطلاقاً من خلفية إيديولوجية، تسعى في بسط "السيادة" على القدس بكامل رموزها وإرثها الحضاري والثقافي والديني، ومن منظور أن الأردن، هو المكان "الأنسب" لحل القضية الفلسطينية، طالما أن الرجل، بما يمثل ومن يمثل، لا يريد الذهاب إلى "حل الدولتين"، ولن يقبل بحل "الدولة الواحدة، ثنائية القومية".
وما لا يصرح به نتانياهو به علنا، يهمس به في مجالسه الخاصة، وسبق له أن ضمّنه كتابه "مكان تحت الشمس"، وهو يترك لمساعديه ومقربيه، أمر تقديم الشروحات والتوضيحات لمواقفه التي يحاذر البوح بها، علناً ورسمياً، فهذا وزير ماليته، يسرائيل كاتس، يقول إن القيود التي فرضتها إسرائيل على زيارة ولي العهد الأردن للأقصى، تنطلق من إيمانها بأحقيتها السيادية على "جبل الهيكل"، والمقصود به الحرم الشريف، وأن على إسرائيل ألا تترك مكاناً للتأويل والاجتهاد، بأنها لن تتخلى عن هذه "السيادة" لأحد، أياً كان، وتحت أي مسمى.
هنا، بيت القصيد، ومربط الفرس. فلا يمكن التصديق بأن إشكالاً فنياً، أو سوء فهم أو صعوبات في التواصل، حالت دون إتمام زيارة ولي العهد الأردني للمسجد. المسألة أعقد من ذلك وأبعد بكثير، وهي تدور أساساً حول "حل الدولتين"، و"السيادة" على القدس، ومصير المسجد الأقصى، واستتباعاً الوصاية الهاشمية عليه.