بقلم - عريب الرنتاوي
زيارتان لبيروت في أقل من شهر، جعلتا من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مركزاً للاهتمام السياسي والإعلامي لعواصم المنطقة ... الزيارة الأولى اشتملت على جولة "راجلة" في شوارع المدينة، لم يسبقه إليها زعيم لبناني أو عربي، وحديثه الناضح بالقسوة والشدّة، عن الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة، ووعوده لشابات لبنان وشبابه، بـ"عدم خذلانهم"، جعلت منه "فرس الرهان" لكثير من اللبنانيين واللبنانيات.
وزيارته الثانية للعاصمة اللبنانية، بدت أكثر "عملانية"، وسبقه إليها السفير في برلين مصطفي أديب، لتولي رئاسة الحكومة، وبدعم كثيف من باريس... فجأة، ومن دون سابق إنذار، اصطف السياسيون اللبنانيون في الطابور، عارضين خدماتهم، لتسهيل التأليف والتكليف، وإنفاذ الأجندة الإصلاحية التي حملها الرئيس الفرنسي، والتي بات واضحاً، أنها ستشكل المحاور الرئيسة للبيان الوزاري الذي ستأخذ الحكومة الجديدة الثقة على أساسه.
ثلاثة شروط "موضوعية" توفرت للرئيس الفرنسي للقيام بدور "المُنقذ" و "المُخلص" للبنان: أولها؛ الانفجار/ الزلزال الذي ضرب بيروت ومرفأها، ونقل لبنان من "غرفة العناية المشددة" التي استقر بها منذ قرابة العام، إلى "مكتب خدمات دفن الموتى"، بانتظار أن يوارى الثرى، وتنتهي معه، قصة "سويسرا الشرق"، و"الاستثناء اللبناني" ... ثانيهما؛ انتقال الأطراف اللبنانية المتصارعة على السلطة و"الكعكة"، من حالة "العجز" عن اجتراح الحلول والتسويات والصفقات، إلى وضعية "الإفلاس" الكلي، مع كل ما يمكن أن يفضي إليه تطورٌ كهذا، إلى انهيار الدولة وتجدد الحرب الأهلية، وانكشاف لبنان للريح السموم التي تهب عليه من إقليم مضطرب ومتخم بصراعات المحاور وحروب الوكالة والانقسامات الطائفية والمذهبية، وتفشي الأصولية والتطرف والإرهاب...ثالثها؛ حالة الإعياء التي أصابت دول الإقليم المقتتلة، فلا إيران المحاصرة بالعقوبات، قادرة أن تكون رافعة لخلاص لبنان، وهي بالأصل جزء من أزمته، ولا تركيا التي تتسل إلى "بلاد الأرز" كما تسللت إلى بلدان أخرى في الإقليم، تتمتع بنفوذ كافٍ يمكنها من "إدارة الأزمة" اللبنانية، ولا السعودية التي اعتمدت سياسة "الحرد" و"الاستنكاف" بصدد المغامرة في التورط في دهاليز الأزمة اللبنانية، مفضلةً التريث ومراقبة التطورات عن بعد، على أمل أن يأتيها اللبنانيون ذات يوم، متوسلين دورها "الخلاصي".
في هذه اللحظة، بدت فرنسا، أكثر من غيرها، مؤهلة لتقديم "مبادرة ربع الساعة الأخير" لاستنقاذ لبنان ... فهي وحدها من بين مختلف القوى الدولية، من بمقدوره أن يتحدث إلى حزب الله والقوات اللبنانية، وأن تتفاوض مع طهران والرياض وتل أبيب، وأن تستمزج آراء موسكو وواشنطن... وهي أكثر من غيرها، لديها قلق من تمدد تركيا في مياه شرق المتوسط ويابسته ونجاحها في التسلل إلى لبنان لـ"ملء فراغ" السعودية، أقله لدى الطائفة السنية، سيما وأن ساحات الاشتباك التركي – الفرنسي، تمتد من شرق المتوسط إلى شمال أفريقيا (ليبيا نموذجاً).
وحال إدارة ماكرون كحال إدارة الرئيس ترامب، تبحث عن نجاح في السياسة الخارجية تعوّض به فشلاً في إدارة الأزمات الداخلية، ماكرون يواجه تحديات كبرى في الداخل، يريد التغطية عليها باختراق على مسار الأزمة اللبنانية، ومن قبله واجه ترامب تحديات كبرى في السياسة الداخلية والحملة الانتخابية، فقفز إلى تسريع مسار التطبيع العربي – الإسرائيلي (اتفاق إبراهام نموذجاً).
في مسعاه للقيام بدور "الحاكم والحكم" بين أفرقاء الأزمة اللبنانية، تسلح ماكرون برغبة أوروبية، تعكس أعمق مخاوف دول الاتحاد من اندلاع موجات جديدة من الإرهاب والهجرة ... وحظي بوكالة أمريكية من إدارة ترامب، للتعامل مع الملف اللبناني نيابة عنها، وهي المنشغلة بأسخن وأصعب حملة انتخابات رئاسية، ماكرون بهذا المعنى يقوم بدور "الممثل الأصيل" لأوروبا و"الدوبلير" البديل عن الإدارة الأمريكية... وفي المقابل، لا يبدو أن موسكو لديها رغبة في إشهار "الفيتو" في وجه مهمته، بدلالة أنها أحجمت على غير عادتها، عن التقدم كوسيط أو "مُيسّر" للحل السياسي للبنان.
ثمة مؤشرات كافية للتفاؤل بقدرة ماكرون على النجاح في إنجاز مهمته، فقد تهيأت له من أسباب النجاح، ما لم يتهيأ لغيره، وإن فشل الرئيس الفرنسي في إنجاز هذه المهمة، فهيهات أن ينجح أحدٌ غيره في إنجازها... لكن التفريق بين ما هو "قصير الأمد" و"انتقالي" في مهمة ماكرون، وما هو "طويل الأجل" أو "استراتيجي" منها، يبدو أمراً مهماً للغاية... إذ إن النجاح ممكن، وإن بصعوبة، في تشكيل حكومة جديدة، ووقف الانهيار والانزلاق إلى قعر الهاوية، والشروع في إنجاز إصلاحات مالية واقتصادية، بيد أن شكوكاً كثيرة، ما زالت تحيط بقدرته على الانتقال بلبنان إلى ضفاف "الجمهورية الثالثة"، جمهورية "ما بعد الطائف"، والتأسيس لنظام سياسي جديد، خارج القيد الطائفي، والتوطئة لدولة مدنية ديمقراطية، دولة جميع أبنائها وبناتها، دولة سيدة، بقانون واحد، وسلاح واحد، وشرعية واحدة ... مثل هذه المهمة، والنجاح فيها، أمر يتطلب التوصل إلى صفقات وتسويات، أبعد من الجغرافيا اللبنانية الصغيرة، وبما يطال واشنطن وطهران والرياض وربما تل أبيب كذلك.
لقد تشجع ماكرون بعودة الروح لدور فرنسا في الشرق العربي، بدءاً من لبنان، فقرر على ما يبدو أن يوسع مهمته اللبنانية لتشمل العراق، الذي صادف أن على رأس حكومته، "مصطفى" آخر، مصطفى الكاظمي يروّج بحماس ظاهر، لهوية "مشرقية جديدة"، وفي أمس الحاجة لمن يضمن حياد بلاده ونأيها بنفسها عن المحاور الإقليمية والدولية المتصارعة ... لقد حمل ماكرون إلى بغداد، ما كان الكاظمي بحاجة لسماعه، وهو الذي يتلقى سهام النقد الكثيفة من طهران وفصائل وميليشيات عراقية موالية لها ... لقد سمع الكاظمي لكل ما أراد الاستماع إليه من زعيم دولي: استقلال العراق وسيادته، عودة الدولة الوطنية بكل مؤسساتها، سيدة وصاحبة الحق الحصري في امتلاك السلاح ... هي ذاتها الكلمات التي سمعها الكاظمي في واشنطن قبلها بأيام، ولكن من دون استفزاز أو تجييش أو تحريض، لا على إيران صاحبة النفوذ الأكبر في العراق، ولا ضد مليشياتها العراقية، التي تكاد تكون دولة داخل الدولة، المقاربة الفرنسية أعلت من شأن الحوار والاحتواء والدبلوماسية في معالجة هذه الملفات، تماماً كما فعل ماكرون وهو يدافع عن مقاربته بخصوص حزب الله في لبنان.
وليس مستبعداً أن يكون الحراك الدبلوماسي الفرنسي على خط لبنان – العراق، إن قُدّر له النجاح، ولو بالحدود الدنيا، مقدمة لحراك أكثر أهمية، بعد الانتخابات الأمريكية، على خط العلاقة بين واشنطن وطهران ... ماكرون يدرك بلا شك، أن كثير من الأزمات التي تعصف بالعراق ولبنان، هي رجع صدى للصراعات الأمريكية – الإيرانية، والإسرائيلية – الإيرانية، والخليجية – الإيرانية، ولا شك أنه يدرك أن حلولاً أكثر استقراراً على المدى الأبعد، تستوجب معاجلة جذر الأزمات المتفاقمة في البلدين، والكامن خارج حدودها للأسف.