بقلم ـ عريب الرنتاوي
تميز العقد الأول من تجربة حكم العدالة والتنمية في تركيا (2002 ـ 2012) باعتماد سياسة داخلية إصلاحية، تسعى في مقابلة شروط ومعايير كوبنهاغن لعضوية الاتحاد الأوروبي بما هي تعميق لمسار التحول الديمقراطي الناشئ، مصحوبة بما وصف بـ»المعجزة الاقتصادية» التي ضاعفت الاقتصاد التركي بأكثر من ثلاث مرات، وحوار مبشر وواعد لحل المسألة الكردية المزمنة، وإعلام حر ومستقل ونشط، كاد يصبح قولاً وفعلاً، سلطة رابعة، إلى غير ما هنالك من إنجازات متراكمة وجديدة.
ترافق ذلك مع تصحيح في وجهة السياسة الخارجية واتجاهاتها، فلم تعد أنقرة تنظر غرباً فقط، باتجاه بروكسل وواشنطن، مع أن عضوية النادي الأوروبي ظلت حلماً تطارده بكل قوة، وتمتين موقعها «الأطلسي» ظل سياسة ثابتة لأنقرة، برغم موجات المد والجزر التي ميزت علاقات تركيا مع الغرب... الاتجاه شرقاً وجنوباً وفي كل وجهة، بات قاعدة ثابتة من قواعد السياسة الخارجية التي اعتمدت «الأدوات الناعمة» في تعزيز نفوذها وتوسيع أسواقها وشراكاتها، فضلاً عن «قوة النموذج» السياسي الاقتصادي الذي بات ملهماً لكل الدول والشعوب المتطلعة للخروج من مستنقع التخلف والاستبداد، إلى فضاءات النمو والحرية.
بهذا المعنى، لم تكن التجربة التركية «نسيج وحدها» فثمة العديد من الدول في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية التي نجحت في غضون عقد أو عقدين، الانتقال من هاوية التخلف والاستبداد إلى آفاق التنمية والحرية، لكن ما جعل التجربة التركية «فريدة» من منظور عربي وشرق أوسطي، أنها قدمت مثالا في عشريتها الأولى، لما يكمن للإسلام السياسي «أن يكونه» وأن ينجزه، إن هو تصالح مع العلمانية والديمقراطية، وإن هو نجح في تعميق مفاهيم وقيم الحداثة المدنية والديمقراطية في خطابه السياسي والفكري... هنا، وهنا بالذات، صارت التجربة التركية «نموذجا» للاستلهام من قبل العديد من التيارات الإسلامية ذات النزعات المدنية والديمقراطية، بل ومن قبل تيارات إصلاحية علمانية كذلك.
عزز من موقع التجربة ومكانتها، أنها انتهجت مواقف وسياسات لم يعتدها العالم العربي المنكوب بأنظمة الفساد والاستبداد، أنظمة الجنرالات والسلالات، كانت مُلهمة لجهة «استقلاليتها» عن مراكز القرار الدولي، وانحيازها لمصالح وحقوق دول وشعوب مستضعفة: رفض تقديم أية تسهيلات للتحالف في الحرب على العراق (2003)، وتأييد القضية الفلسطينية بقوة في مختلف المحافل الدولية والإقليمية، وتوجيه انتقادات لاذعة للسياسات والممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.
لكن ذلك كله، أو معظمه، بات صفحة من الماضي.
فما أن دخلت تجربة حكم العدالة والتنمية عقدها الثاني، حتى كانت مياه كثيرة قد جرت و»ركدت» في أنهار تركيا وبحيراتها، ساعد على هذا التحول الذي ضرب السياستين الداخلية والخارجية على حد سواء، جملة من الظروف والعوامل من أهمها:
(1) نجاحات الحزب وزعيمه الكاريزمي ـ الشعبوي، مكّنته من إلحاق هزائم انتخابية ساحقة بخصومه الداخليين ومجادليه، بحيث بات بمقدور الحزب «تفكيك» قلاع العلمانية التركية الواحدة تلو الأخرى، وبسط سيطرته عليها: من الإعلام، إلى المؤسسة العسكرية، مروراً بالقضاء والمدرسة والجامعة الوطنيتين، وانتهاء بالرئاسة الأولى في البلاد... لم يعد للحزب، من يتحداه على السلطة والنفوذ.
(2) اندلاع ثورات الربيع، وتمكن حركات إسلامية تقترب وتبتعد بدرجات متفاوتة من فكر العدالة وتجربته، من قيادة هذه الثورات وتشكيل النظام السياسية التي أعقبتها، الأمر الذي فتح أفقا لإردوغان، لتعميم زعامته على الإقليم، وليس على نطاق تركيا فحسب، والسعي لاستعادة بعض من إرث وأمجاد الإمبراطورية العثمانية البائدة.
(3) صعود أقطاب دولية جديدة وقديمة، تسعى في إعادة تشكيل النظام العالمي والتخلص من «الأحادية القطبية»، وفّر فرصة لإردوغان لتوظيف التنافس الروسي ـ الأميركي (الأطلسي) على أنقرة، ما رفع من قيمة مختلف الأوراق التي يمتلكها، وجعلته قادراً على احتراف هواية الرقص المشدود بين الكرملين والبيت الأبيض.
ما الذي ترتب على ذلك كله؟
في الداخل، أفضى بقاء الحزب فترة طويلة في السلطة (قرابة العقدين)، إلى تمكين الحزب من تفكيك معسكرات خصومه وتجفيف مصادر قوتهم، مخاطباً المشاعر الدينية لغالبية المجتمع التركي، ومؤخراً اللعب على مشاعره القومية، لا يهم طالما أن النتيجة مزيد من الأصوات الداعمة في صناديق الاقتراع... «تعهير» الخصوم «وشيطنتهم» مع أن منسوب الفساد ارتفع في أوساط الحزب والعائلة... اللعب على انتماءات المذهبية حتى وإن أفضى ذلك إلى إثارة «مسألة علوية» إلى جانب «المسألة الكردية» في البلاد... ارتد عن مسار الحل السياسي ـ التفاوضي للمسألة الكردية، واستعاض عنها بحملات التنكيل والاعتقال التي طالت قيادات برلمانية وبلدية منتخبة، فضلاً عن الزحف العسكري في مناطق جنوب شرقي الأناضول... ضرب الحريات العامة في البلاد، وخنق كل صوت معارض، وتحويل تركيا إلى أكبر سجن للصحافيين في العالم، والسيطرة المباشرة على الغالبية العظمى من وسائل الإعلام.
وما أن أدرك إردوغان أن باب العضوية في النادي الأوروبي، قد بات مغلقاً، حتى بات أقل حذراً في انقضاضه على المنجز الديمقراطي التركي، فقرر الانتقال بتركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي مطلق الصلاحيات، مفصلاً دستوراً جديداً للبلاد على مقاسه الشخصي، بحيث تكون كافة الصلاحيات التنفيذية، والتشريعية إلى حد ما، في يده، تتبعه في حلّه وترحاله بين المواقع والمناصب، من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية.
ولأن مسار الدكتاتورية يبدأ بإضعاف خصوم الخارج التقليديين قبل أن ينتقل إلى رفاق الدرب والمسيرة في الداخل، فقد بدأت الخلافات تتفاقم بين إردوغان وحاضنته الشعبية العريضة «جماعة فتح الله غولن»، قبل أن يبدأ بتهميش وإبعاد رفاقه في حزب العدالة والتنمية، من عبدالله غول، إلى أحمد جاويش أوغلو، مروراً بمئات وألوف الكوادر القيادية، التي غادرت صفوف الحزب، بالانشقاق أو عبر عمليات النزف المستمرة، أما حملات الاعتقال والطرد من الوظائف التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة في العام 2016، فهي لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد، لكأننا لسنا أمام محاولة انقلابية، بل أمام «ثورة شعبية» ضد نظام إردوغان وحكومته.
ترافق ذلك مع انتهاء «مفاعيل المعجزة الاقتصادية»، فلا معدلات النمو ظلت على حالها، والعملة الوطنية تخرج من أزمة لتدخل في أخرى، ولم يعد الأمل بالانتقال من نادي الدول المدينة إلى نادي الدول المانحة، حلماً يراود «العدالة والتنمية» الذي يجد نفسه مرغماً على العودة إلى موائد صندوق النقد الدولي.
في الخارج، وعلى نحو متوازٍ ومتزامن مع تطورات الداخل، كانت تركيا تطور أدوات جديدة في سياستها الخارجية، إذ بدل «صفر مشاكل» مع الجيران كما كانت عليه في العشرية الأولى، صارت «صفر أصدقاء» كما يسخر كثيرون... وبدل «الأدوات الناعمة» التي جرى اعتمادها في مرحلة صعود العدالة والتنمية، يجري اعتماد «الأدوات الخشنة» من زرع المليشيات ودعم الجماعات المسلحة والتدخل العسكري المباشر واللجوء إلى «المرتزقة» في تسوية بعض النزاعات.
وبالتزامن مع «أمننة» السياسة الداخلية التي زُجّ بنتيجتها بعشرات الألوف في السجون ومصادرة حقوق وحريات أضعافهم، جرت أوسع عملية «عسكرة» للسياسة الخارجية، وثمة علاقة سببية بين «أمننة الداخل» و»عسكرة الخارج»، فكل فشل في الداخل، كان يقتضي توسيع دائرة التهديدات الخارجية وتضخيمها، بهدف تخويف المواطنين والخصوم، وصرف انتباههم عن أزمات الحكم والاقتصاد والعملة الوطنية وغيرها.
تركيا تشتبك اليوم في ثلاث حروب دفعة واحدة، فجيوشها وطائراتها وسفنها الحربية تقاتل في سورية والعراق وليبيا، وتمخر عباب المتوسط والأحمر والقرن الأفريقي والخليج العربي... و»العسكرتاريا التركية» تعزز حضورها البحري في المتوسط ولا تتورع عن استفزاز السفن اليونانية والفرنسية (الأطلسية)، وصولاً إلى بناء قواعد بحرية وجوية وبرية في ليبيا، إلى جانب قواعدها في كل من الصومال وقطر، بعد أن خسرت امتيازاتها في جزيرة «سواكن» السودانية إثر سقوط نظام البشير، فيما يشبه «القوس العثماني» الذي يكاد يأخذ شكل الدائرة المكتملة.
ولم يعد ثمة ما يميز «النموذج» التركي عن الإيراني في التوسع والسيطرة، إن لجهة الأهداف: استعادة الأمجاد الإمبراطورية السابقة (الهلال الشيعي والقوس العثماني)، أو لجهة اللجوء إلى استخدام أكثر الأدوات خشونة: التدخل العسكري المباشر، زرع المليشيات المذهبية المسلحة، الاعتماد على المرتزقة في «حروب الوكالة»، تفكيك المجتمعات وخلق كيانات موازية، ودائماً تحت وابل كثيف من الشعارات الكبرى المناهضة للاستكبار الغربي وإسرائيل، والمغلفة بإحكام، بخطاب ديني ـ مذهبي نافر.
لكن الفارق الوحيد بين التجربتين، أن التجربة الإيرانية قائمة على «نظام» مدجج بالأيديولوجيا والمليشيات «الحرس الثوري»، ليست مرتبطة بمصير شخص واحد، حتى وإن كان بمستوى ووزن آية الله الخميني أو خلفه خامنئي... أما في الحالة التركية، فما زالت التجربة مرتبطة بمصير رجل واحد: إردوغان، إن حضر حضرت، وإن غاب أو غُيّب غابت، مع أننا لاحظنا مؤخراً، ميلاً تركياً لاستلهام بعض من أوجه التجربة الإيرانية في الداخل، وهو ما حذرت منه قوى المعارضة وهي تناقش مشروع قانون لتعزيز صلاحيات وقدرات «حراس الأحياء الليليين»، خشية أن يصبح أقرب إلى «ميليشيا/ باسيج» للحزب الحاكم وزعيمه تحسباً لأية احتمالات مستقبلية غير مرغوبة.