بقلم - عريب الرنتاوي
قرأت بإمعان، كلمة الرئيس الفلسطيني محمود عباس التي أعلن فيها "تحلل" السلطة من الاتفاقات التي أبرمتها مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة...وبذلت جهداً في تتبع ردود الأفعال والتغطيات لهذه الكلمة...ولقد تولّدت لديّ القناعات التالية:
أولاً: لسنا نستعجل الحكم على "الموقف النهائي" للسلطة، لأن كلمة الرئيس لم تستبطن هذا الموقف، فمن يريد أن يخرج من الاتفاقات المبرمة، ويتحلل من التزاماته حيالها، يسلك طريقاً "قانونياً/دستورياً لفعل ذلك، فالاتفاقات والمعاهدات تلغى بذات الآلية والطريقة التي أبرمت به وصودق بها عليها، لتدخل بعد ذلك حيز التنفيذ...إلى أن يتم ذلك، سيظل "التحلل" من الاتفاقات، مجرد بيان سياسي، قد يعكس حالة من الغضب والإحباط، بيد أنه لا يرتب اية وضعية قانونية جديدة.
ثانياً: لم تخرج كلمة الرئيس عن نص ومنطوق قرارات المجلسين الوطني والمركزي المتعاقبة، لا بل أن تلك القرارات أكثر وضوحاً وتفصيلاً، والأصل أنها ملزمة، طالما أنها تصدر عن أعلى هيئات قيادية للشعب الفلسطيني وممثله الشرعي الوحيد...ومثلما بقيت تلك القرارات معلقة في فراغ لثلاث سنوات، فليس ثمة أية ضمانة من أي نوع، بأن ما ورد في كلمة الأمس، سيلقى مصيراً مختلفاً.
ثالثاً: الكلمة، و"اجتماع القيادة" الذي تأجل لما بعد حصول حكومة التناوب الإسرائيلية على ثقة الكنيست، دللت على استمرار الرهانات "اقرأ الأوهام" على مسار المفاوضات العبثية، كان الأمل معقوداً أن ينجح أزرق أبيض، وربما حزب العمل، في تدوير الزوايا الحادة لمواقف نتنياهو وصفقة القرن...هذا لم يحصل، فجاءت مفردات الكلمة الغاضبة غير متناسبة مع مضمون البيان وقراراته.
رابعاً: الكلمة أبقت الباب مفتوحاً لممارسة "المزيد من الشيء ذاته"...مفاوضات ورهان على حل الدولتين، تغييب لفكرة المقاومة حتى بأشكالها الشعبية السلمية، تلويح بالانضمام لمزيد من المنظمات الدولية (للمرة الألف)...الاستراتيجية الفلسطينية لمرحلة ما بعد صفقة القرن وما بعد قرار الضم، وما بعد انهيار حل الدولتين، هي ذاتها استراتيجية ما قبل هذه المرحلة...الاستراتيجية التي لم تفلح في الاتيان بالدولة والعودة وتقرير المصير والعاصمة، هي ذاتها التي يجري التأكيد عليها من جديد...سلوك الطريق ذاته على أمل الوصول إلى نهايات مغايرة (؟!).
خامساً: أما حكاية التنسيق الأمني، كغيرها من الحكايات، فقد جرى إعطاء التوجيه لقادة الأجهزة الأمنية بوقف كافة أشكال التنسيق المعتادة، هي ليست المرة الأولى التي يقال فيها شيئاً كهذا...وغداً أو بعد غدٍ، سنتأكد ما إذا كانت التوجيهات المذكورة قد وصلت لمتلقيها، أو ما إذا تم العمل بهديها أم لا...الجانب الإسرائيلي كفيل بـ"كشف الطابق".
سادساً: لكل هذه الأسباب، لا نرى تفاعلاً جدياً فلسطينياً مع الكلمة وتوجهاتها "الجديدة"...حماس والجهاد قاطعتا الاجتماع ابتداءً...الجبهة الشعبية انسحبت منه احتجاجاً على "ركاكة" البيان الختامي، واشتكى ممثلها في اجتماع القيادة من "تنمر" الرئيس ومرافقيه...لا جديد يذكر في حالة "الاهتراء الداخلي" الفلسطيني...حتى النوايا الطبية التي أرسل بها زعيم "الشعبية" من سجنه، ذهبت أدراج الرياح بعد أسبوعين من رسائل الأسير أحمد سعدات للرئيس وقيادة الجبهة.
سابعاً: الجانب الإسرائيلي لم ترتعد فرائصه، ولم يعض أصابعه ندماً على الاتفاقات المبرمة، فهو أطاح بها جميعها من قبل، وهو مطمئن للحدود الضيقة لخيارات السلطة في الضفة أو لبدائل "المقاومة" في القطاع، وهو يراقب بكثير من الارتياح "تجذر" حالة الانقسام الفلسطينية، منصرفاً إلى ما هم أهم بكثير: تأمين استقبال حافل لطائرات عربية تهبط رسمياً وعلنا في مطار بن غوريون.