بقلم - عريب الرنتاوي
فقد اللاعبون العرب الكبار تأثيرهم المُوجّه لسياقات الأزمة اللبنانية، والمُقرر لمساراتها...آخر الأدوار المصرية الكبرى في لبنان، انتهى مع نهاية عهدها الناصري...السعودية التي توافق اللبنانيون على أرضها (الطائف أيلول 1989)، برعايتها وبالشراكة مع سوريا (معادلة س س)، تواجه منافسة حادة من قبل لاعبين آخرين: تركيا صاحبة النفوذ الطارئ ولكن المتزايد في لبنان عبر بوابته "السنيّة"...قطر التي يحمل اتفاق اللبنانيين (أيار 2008) اسم عاصمتها، والتي تساند أنقرة إقليمياً، تحتفظ بعلاقات متوترة مع أطراف لبنانية وعربية...قبل هؤلاء جميعاً وبعدهم، إيران صاحبة اليد الطولى في لبنان، بوصفها جزءاً من المشكلة والحل...لتكون خلاصة هذا الاستعراض الوجيز، أن ليس ثمة من دولة واحدة، عربية أو إقليمية، بمقدورها أن ترعى "توافقاً وطنياً" لبنانياً، أو أن تكون لها "كلمة عليا" في تقرير مصائر الأزمة اللبنانية ومآلاتها.
عند لحظة الاستعصاء هذه، ظهرت فرنسا بوصفها اللاعب الدولي الأقدر على انتزاع زمام المبادرة، مع أن الدور الفرنسي في لبنان تراجع كثيراً في السنوات الماضية...وجد إيمانويل ماكرون في الاستعصاء اللبناني، ضالته للقفز من فوق مشكلاته في الداخل، وسعياً لتجديد حضور فرنسا في الخارج...ولقد أمكن له استغلال انشغالات واشنطن والعواصم الأوروبية بهموم وملفات أخرى، لانتزاع ما يشبه التفويض الغربي للقيام بهذا الدور، فلا واشنطن بوارد استثمار المزيد من الوقت والجهد في لبنان، ولا أوروبا المتعبة بمثل هذا الوارد...ثم أن لبنان، القريب جداً من القارة العجوز، يبدو محملاً بكثير من الهواجس المقلقة، وتحديداً في ملفي الهجرة والإرهاب.... دع عنك حكاية "الوشائج الخاصة" التي تجمع باريس بمن كانت ذات يوم: "باريس الشرق".
تنعقد رهانات كثير من اللبنانيين وآمالهم على ما يمكن ان تأتي به "المبادرة الفرنسية قيد التشكل"...ومع أن فرنسا ليست صديقة لفريق منهم (حزب الله أساساً) إلا أن المقاربة التي اعتمدها ماكرون في بيروت، دللت على إدراك عميق للحاجة لتفادي أية "نزعات إقصائية/استئصالية"، في التعامل مع أفرقاء الأزمة اللبنانية...فلكي تقوم بدور الوسيط والراعي، عليك أن تُبقي قنوات التواصل سالكة مع الجميع، وأن تستمسك بـ"شعرة معاوية" حتى وأنت تتعامل مع "كارهي معاوية".
ربما لهذا السبب، سعت الدبلوماسية الفرنسية إلى عدم استثناء أي من الكتل النيابية في اجتماعات "قصر الصنوبر"، وحرص ماكرون على الاختلاء بمحمد رعد، رئيس كتلة حزب الله في البرلمان، وصرح في طريق عودته لباريس بأنه لا يمكن تجاهل الحزب عند التفكير بأي حل للبنان، بل وذهب أبعد من ذلك للقول بأن فرنسا لا تتفق مع وجهة النظر الأمريكية حيال حزب الله في جميع جوانبها...هذا يكفي، من وجهة نظر باريس، لفتح قنوات اتصال وتواصل مع الحزب، وفي ظني أنه يكفي كذلك من وجهة نظر الحزب أيضاً.
حالة التآكل التي ألمت منذ زمن، بالنظام العربي ومنظومة العمل القومي المشترك، معطوفة على تفشي مظاهر الاستقطاب والاحتراب بين المحاور العربية والإقليمية المتصارعة، جرّدت مختلف عواصم الإقليم من قدرتها على رعاية الحل والوساطة بين أفرقاء الأزمة...وبعد عقود ثلاثة من "تعريب" الأزمة اللبنانية، يبدو أن المخرج اليوم، بات مفتوحاً على سيناريو "التدويل" عبر البوابة الفرنسية...أبعد من ذلك يمكن القول، أن الأطراف الإقليمية – غير العربية - الفاعلة في لبنان، باتت قادرة على "منافسة" العواصم العربية ومزاحمتها على النفوذ والتأثير، وأحسب أن ماكرون في مسعاه لتسويغ مبادرته وتسويقها، سيجد نفسه مكرهاً على التشاور مع أنقرة، وبالأخص طهران، إلى جانب الرياض، وبدرجة أقل، مع عدد آخر من العواصم العربية.