بقلم - عريب الرنتاوي
نشأنا صغاراً على أسئلة من نوع: ما هي أركان "الوحدة العربية"، وما عناصر نشأة "الأمة العربية"...لم نكن نتلعثم ونحن نجيب على هذه الأسئلة، كانت الإجابات تتدفق تلقائياً من حلقونا إلى ألستنا: وحدة الجغرافيا والتاريخ والمستقبل المشترك، وحدة اللغة والدين...مسلمات لم يكن لأحدٍ منّا أن يجادل بها، أو يتحداها، ليس لأنه مجبر على فعل ذلك، بل ببساطة لأنها مسلمات، لا يأتيها الباطل عن يمين أو شمال.
نحن جيل نشأ على "بلاد العرب أوطاني"، وحفظ عن ظهر قلب حدود الوطن الكبير وخرائطه، تغنى بميزاته الاقتصادية والجيو-ستراتيجية الفريدة، كحلقة وصل بين قارات العالم القديم الثلاث، وموطن لأهم الممرات الملاحية...وفي "المراحل الثورية"، لطالما رددنا شعارات "من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر"...لم تكن قضية أي بلد عربي تخصه وحده، بل كانت قضيتنا جميعاً، وما زلت أذكر طوابير الصباح في مدرسة "الأونروا" في مخيم الوحدات، حين كانت حناجرنا تلتهب بنشيد الثورة الجزائرية، وشعور أبداننا تقشعر ونحن نهتف: "قسماً بالنازلات الماحقات"...لم تكن فلسطين وحدها تشغلنا، نحن "جيل ما بعد النكبة"، فقد ترسخ في وعينا و"لا وعينا"، أن فلسطين قضية العرب المركزية الأولى، وأن على العرب حل مشكلاتهم "الجانبية" الكثيرة، لكي يتفرغوا لحل مشكلة فلسطين وأهلها، من شُرّد منهم عن وطنه ومن بقي فوق ترابه.
بيد أننا مع كل عقد من الزمان كنّا نقطعه، كنّا نشهد بكثير من "الفجائعية"، كيف تتراجع "الوحدة" وتتفكك "الأمة"، حتى صار الحديث عن وحدة عربية ضرباً من مطاردة "السراب"، وإعادة اللحمة إلى "الأمة" شريطاً من "الخيال الجامح"....."تواضَعَت" أحلامنا وتقلصت، حتى صار الحفاظ وحدة "الدولة القطرية"، التي طالما هجوناها، بوصفها دولة "سايكس- بيكو"، هدفاً بعيد المنال، وغالباً "عصياً على التحقيق"، بالذات في المشرق العربي، فسيفساء الأقوام والأديان والطوائف والمذاهب...حدث ذلك كله في زمن قصير، وخلال "حياة واحدة"، لم يستغرق الأمر دهراً، ولا أجيالاً متعاقبة.
صحيح أن التطورات التي شهدها العالم العربي في العقود الخمسة الفائتة، كانت عاصفة، وكفيلة باستحداث "الانقلابات الجذرية" في المشهد.....لكن "الانهيار الكبير" لم تكمن أسبابه هنا فحسب، بل تولّدت في مكان آخر، سابق على الانهيارات، تخلّقت في "وعينا التأسيسي" لمفاهيم "الأمة" و"الدولة" و"الوحدة" و"دولة الأمة"...ما استوجب سلسلة لم تنقطع من "المراجعات" التي أجراها ويجريها مثقفون ومفكرون عرباً و"غير عرب"، تدفعنا دفعاً لتحدي "مسلماتنا"، وإعادة النظر في منظومة المفاهيم الحاكمة لفكرنا السياسي والاعتقادي.
مناسبة هذا الحديث ما صدر عن "منتدى الفكر العربي"، وهو مؤسسة ثقافية – فكرية – عربية مرموقة، أسسها ويشرف عليها، الأمير الحسن بن طلال، تحت عنوان "إعلان عمان"، وأكثر ما لفتني فيه، دعوته لـ"ويستفاليا مشرقية"، تحفظ حدود دول المشرق وخرائطها، من مفاعيل التفتيت المنهجي المنظم التي تجتاحها، دولاً ومجتمعات، وبعد أن تحوّل "التطلّع" خارج الحدود الوطنية/القومية، سياسة عليا لبعض دوله القوية، عربية وغير عربية، قبل وبعد أن يأتي الدور للاعبين "لا دولاتيون – Non-State Actors"، ليعمدوا بدورهم إلى محو خرائط سايكس – بيكو، من يسترجع صور "جرافات داعش" وهي تزيل الحدود بين سوريا والعراق، بعد أن أعلنت من على منبر المسجد الكبير في الموصل قيام "خلافتها الإسلامية"، يعرف ماذا أريد أن أقول.
وإذا كان الحديث عن "ويستفاليا مشرقية"، يستهدف استنقاذ وحدة وسيادة دول المشرق العربي على اتساعه، وتنظيم العلاقة بين أممه الأربع: العرب، الفرس، الترك والأكراد، فإن سؤال "من الذي يتهدد دول المشرق في خرائطها وحدودها؟" يبدو سؤالاً مركزياً اليوم...إذ برغم وضوح الإجابة على هذا السؤال، إلا أنها تثير انقساماً داخل الإقليم وخارجه، ما يجعل الإجابة عليه، إشكالية للغاية، سيما في مناخات الاستقطاب السياسي والديني، واحتدام الصراعات بين العواصم والمحاور الإقليمية المتنافسة.
وليس بخافٍ على أحد أن إيران وتركيا، هما المقصودتان بدعوة "إعلان عمان" لـ"ويستفاليا مشرقية"، أو على الأقل، المقصودتان الرئيستان في هذه دعوة الإعلان المذكور، فطهران تفاخر بأنها تفرض سيطرتها على أربعة عواصم مشرقية، ثلاثة منها "مشرقية"، إلى جانب صنعاء، وتركيا لم تعد بحاجة لإخفاء "عثمانيتها الجديدة"، بعد أن صارت "العثمنة" غطاء ومبرراً للتدخل في الشؤون الداخلية "للولايات العثمانية السابقة"، وفي كلتا الحالتين، ودائماً، يبرز الخطاب الديني – المذهبي، بوصفه أداة ورافعة في حسابات "الجيوبوليتكس" للقوتين الإقليميين، صاحبتي الإرث الامبراطوري – التاريخي، المثقلتان بالرغبة في الهيمنة والتوسع.
على أن إيران وتركيا، ليستا وحدهما – كما أظن – المقصودتان، بالدعوة لـ"ويستفاليا مشرقية"، فتاريخ العلاقات العربية البينية، بالذات في المشرق وعلى أطرافه، كان حافلاً برغبة الشقيقات الكبريات، في اجتياز "خطوط سايكس بيكو"، والتنكر لقواعد "ويستفاليا الأم"، وإلا كيف ننظر للغزو العراقي للكويت في العام 1990، والتدخل السوري في لبنان عام 1976، والحرب السعودية – الإماراتية على اليمن، ودور التحالف العربي في تفكيك وحدة هذا البلد والإجهاز على أي مظهر من مظاهر سيادته.....ليست تركيا وإيران وحدهما، ولا "داعش" من قبلهما، من ضاق ذرعاً بـ"ويستفاليا".....ثمة عواصم عربية عديدة، ضاقت ذرعاً بالعباءة الضيقة لحدودها وخرائطها، وهي تتحين الفرص لاجتيازها والخروج عليها.
وما ينطبق على مشرق العرب، ينطبق بأشكال ودرجات متفاوتة على مغربهم وخليجهم وواديهم "وادي النيل"، فالحروب والأزمات والنزعات المفتوحة في غير ساحة (ليبيا المفتوحة على "الأقلمة" و"التدويل" اليوم، السودان الذي لم يعرف السلم الأهلي والنزعات الانفصالية منذ نصف قرن، قضية الصحراء بين الجزائر والمغرب، اليمن الذي بات ساحة لاختبار مختلف مشاريع التجزئة والتفتيت).....جميعها شواهد على تعطّل مفاعيل "ويستفاليا" بعد أربعة قرون على حدوثها، ونماذج مختلفة للفشل في تجربة بناء "الدولة/الأمة"....هنا وهنا بالذات، يحضر المثل العربي بدلالاته البالغة: "كلنا في الهم شرق".
ما يلفت الانتباه في الدعوة لـ"ويستفاليا مشرقية"، أنها تتزامن وتتأسس على دعوات عدة، تصدر عن مرجعيات سياسية وفكرية متباينة، لإحياء "هوية مشرقية"، إذ يعتقد أصحاب هذه الدعوات ومطلقوها، أن وقف "التشظي" الذي تعيشه دول المشرق العربي، وإن كان يستوجب الإقرار بحدود دوله وخرائطها: "ويستفاليا المشرقية"، إلا أنه يستدعي كذلك البناء على "هوية جمعية" مشرقية، تكفل "التنوع في إطار الوحدة"، وتراعي استدامة هذا التنوع الثري في "فسيفساء" المشرق بأقوامه ومذاهبه وديانته المتعددة.
هنا، يجب الإقرار بأن الحديث عن "هوية مشرقية"، يستبطن خلاصات ثلاث: الأولى؛ إنه وإن كان لا يتعارض بالضرورة في فكرة "الهوية القومية – العربية الأوسع"، إلا أنه تعبير عن تآكل الثقة إن لم نقل بوجود "الأمة العربية" فبالقدرة على بناء "وحدتها القومية"....الثانية؛ إنه يُبنى على درجة أعلى وأثق من الروابط والصلات الثقافية والاجتماعية والتاريخية بين شعوب ومجتمعات المشرق، لا تتوفر مع غيرها من البلدان والأقاليم الفرعية في العالم العربي.....والثالثة؛ أنه ضربٌ من إعادة الاعتبار لنظرية "الأمة السورية" عند أنطون سعادة، حتى وإن عمد إلى تقليص نطاقها الجغرافي، ويعيد الاعتبار كذلك لمقولة "سوراقيا"، التي تكاد تختصر "المشرق"، الذي يراد إنعاش "هويته" وإعادة تشكيله وفقاً لـ"ويستفاليا مشرقية".
وأخيراً، لا آخراً، يظل الحديث عن "هوية مشرقية" أو عن "ويستفاليا مشرقية"، على ما يمكن أن يستبطنه من "تعارض" كامن في جوهره: هوية واحدة مبثوثة في نصف دزينة من الدول، ينقصه الإجابة عن أسئلة من نوع: من هي القوى الحاملة لهذا المشروع، وهي ستكون قادرة على صد رياح التفتيت الجامحة التي تصفر في مدن المشرق الخربة بفعل حروبها الداخلية وحروب الأخرين عليها؟