بقلم - عريب الرنتاوي
خاطب رئيس مجلس السيادة السوداني الجنرال عبد الفتاح البرهان، ورئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك، كل على حدة، مؤتمراً اقتصادياً قومياً بدأ أعماله يوم أمس الأول في الخرطوم...الجنرال قال إن لدى السودان "فرصة استثنائية" للخروج من قبضة العقوبات الأمريكية ولوائح واشنطن السوداء للدول الراعية للإرهاب...أما حمدوك فقال أن التطبيع مع إسرائيل يتطلب "حواراً مجتمعياً معمقاً"، كونه قضية "إشكالية"، رافضاً الربط ما بين التطبيع من جهة ورفع اسم بلاده عن القائمة الأمريكية السوداء من الجهة الثانية، باعتبارهما مساران منفصلان.
ما يراه الجنرال "فرصة استثنائية" يراه رئيس الحكومة "مسألة إشكالية"...أما بقية القوى المدنية الرئيسة فقد تردد صدى موافقها خلال الأيام القليلة الفائتة في مظاهرات الاعتراض على التطبيع والبيانات والمواقف الصحيفة المنددة بـ"الابتزاز" الأمريكي المُمارس على بلادهم...الشيوعيون وتجمع المهنيين ومنظمات وحركات شبابية ونسائية عبّرت عن موقف رافض لسياسة الابتزاز و"ليّ الذراع" التي تنتهجها واشنطن حيالهم، فيما الصادق المهدي كان يقدم وصفاً للتطبيع بأنه "اسم الدلع" للاستسلام، ويجدد باسم حزب الأمة، رفضه المقاربة "الابتزازية" لواشنطن، ويؤكد أن بلاده استوفت منذ لحظة الثورة، متطلبات رفع اسمها من القائمة المشؤومة، ولا حاجة بها لمزيد من الضغوط والشروط الخارجة عن سياقاتها.
من بعيد، كانت مجلة فورين أفيرز الأمريكية المرموقة تكشف عن عروض قُدّمت للسودان في المفاوضات الأخيرة التي أجراها البرهان مع وفد أمريكي في أبو ظبي...إسرائيل تعهدت بدفع 10 ملايين دولار كاش دعماً للموازنة (يا بلاش)، الولايات المتحدة تعهدت بدفع 500 مليون دولار تتوزع ما بين مساعدات واستثمارات، والإمارات قالت إنها ستقدم مبلغ 600 مليون دولار، على شكل محروقات للبلاد التي تعاني نقصاً فادحاً فيها، وبمجموع، نقدي وعيني يصل إلى مليار ومائة وعشرة ملايين دولار.
على أن رفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب يتطلب وفقاً للمصادر الأمريكية، قيام الخرطوم مقدماً، برصد مبلغ 360 مليون دولار في حساب "مغلق" كتعويضات لضحايا (وعوائل ضحايا) العمليات الإرهابية التي نفذها تنظيم القاعدة ضد أهداف أمريكية (330 مليون لضحايا حادثتي نيروبي ودار السلام، و30 مليون حاملة الطائرات يو إس إس كول)، أي أن المبلغ المتبقي للسودان سيكون بحدود 750 مليون دولار، على فرض أن الأطراف ستفي بالتزاماتها، وستفي بها بالوقت المحدد.
لا تكف إسرائيل عن إغداق وعود الرخاء والازدهار على كل من يقترب منها من العرب في مسعى لجذبه إلى مستنقع التطبيع والتعاون الأمني والاستخباري...لكنها قلما كشفت عن حجم مساهمتها في خلق هذا الازدهار والرخاء...وعندما قررت "مساعدة" السودان لحسم تردده وتجاوز انقساماته في الإجابة على سؤال: ما إذا كان التطبيع "فرصة" أم "مشكلة"، قررت التقدم بتبرع سخي: عشرة ملايين دولار عداً ونقداً.
أحد الظرفاء علّق على تغريدة لي على تويتر بالقول: إن إجمالي المبلغ المرصود لتشجيع السودان على القفز من قارب الإجماع العربي إلى مستنقع التطبيع مع إسرائيل لا يكفي لـ"شراء نادي رياضي"، وفي تلك الإشارة الساخرة، ما يكفي من الدلالات الكاشفة على الكيفية التي تنظر بها إسرائيل لدولنا ومجتمعاتنا، وأين أوصلتنا حالة الرخص التي تعيشها نظم وحكومات عربية رسمية.
لن نسترسل في تناول مسألة التطبيع بين السودان وإسرائيل، فقد تناولناها من قبل أكثر من مرة، لكن اللافت أن أحد أفقر البلدان العربية على الإطلاق، يبدي مقاومة لأعتى موجة من الضغوط وعمليات الابتزاز التي يتعرض لها من الداخل والخارج، نأمل أن تُكلل بالظفر، وتحية لكل الأحرار والحرائر في السودان الشقيق.