بقلم - عريب الرنتاوي
لا مطرح لـ “المذاهب" و"الطوائف" و"المبادئ"، في الحرب المندلعة بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم ناغورنو كاراباخ وحوله وعليه...وحدها "المصالح" تتجلى عاريةً في الحرب الدائرة هناك، حتى من ورقة التوت التي تتلفع بها.
تركيا "زعيمة الإسلام السنّي" تقف بقوة خلف أذربيجان الشيعية...إيران، "دولة المركز الشيعي" لطالما انحازت لأرمينيا المسيحية ضد أشقائها في المذهب: الأذريين، والذين هم "أشقاء في القومية" كذلك، لشريحة واسعة من شعبها...إسرائيل، "الدولة اليهودية"، تناصر أذربيجان حتى وإن كان تزويدها لها بالسلاح والعتاد، يصب الحبّ في طاحونة أردوغان، الذي لا يترك مناسبة دون توجيه أشد الإدانات لسياساتها.
محور سنّي عربي، يدعم أرمينيا المسيحية، كما تفعل إيران، بالرغم من عدائه الشديد لطهران في مختلف الساحات والميادين...يبدو أن أولوية كبح الاندفاعة التوسعية لتركيا، تحظى بمكانة متقدمة على "الهواجس الإيرانية" عند هذا المحور...الغرب والشرق المسيحيين، قلوبهم مع أرمينيا، وسيوفهم في أغمادها، يؤثرون أدوار الوسطاء وسُعاة الخير.
لتركيا حساباتها في أذربيجان، التي تجمعها بها روابط اللغة والعرق، وإن فرقهما اختلاف المذهب...ولتركيا حسابات ثقيلة تصفيها مع أرمينيا، التي لا تتوقف حملاتها الدولية عن العمل من أجل إلزام تركيا بالاعتراف بمجازر الأرمن في نهاية الحقبة العثمانية، والاعتذار عنها والتعويض عليها...وكم كان لافتاً أن الناطق باسم الرئاسة التركية استخدم تعبير "المجازر" في وصف العمليات العسكرية الأرمينية في أذربيجان، علما بأن باكو هي من يتحدث عن "حسم عسكري" للأزمة، فيما تُبدي يريفان جنوحاً للتهدئة والتفاوض، في ضوء الاختلال الكبير في توازنات القوى بين الجانبين، ودائماً لصالح أذربيجان.
إسرائيل وإيران تتصارعان في منطقة "القوقاز الجنوبي"...إسرائيل تحتفظ بوجود استخباري كثيف في أذربيجان لرصد وتتبع أنشطة إيران، و"الموساد" لا يتوانى عن تجنيد الأذريين للعمل معه، وصولاً لأذريي إيران، وبين البلدين علاقات اقتصادية وتجارية وعقود تسلح بمليارات كثيرة من الدولارات.
في المقابل، أدركت إيران مبكراً "الخطر" الكامن على حدودها مع أذربيجان، هي تعرف وتتبع الوجود العسكري والاستخباري الإسرائيلي، وهي تراقب بكل اهتمام، محاولات تفتيتها من الداخل عبر إثارة مسألة "الأقليات" و"الحقوق القومية" لمكوناتها، وهي تعرف أن أذربيجان ضالعة في هذه اللعبة، ما أن انتهج إلهام علييف، سياسة تقارب مع الغرب، لم تستهدف إيران وحدها، بل استهدفت روسيا أساساً.
دول عربية من معسكرات متصادمة، جمعتها أزمة ناغورنو كاراباخ في "خندق واحد"، ودائماً لمواجهة التمدد التركي "العابر للقارات"...نظام الرئيس الأسد يقف بقوة إلى جانب أرمينيا، وتقف معها كذلك، عدة دول عربية (سنيّة) ناصبت الأسد أشد العداء، قبل أن تستفيق لـ"التهديد المشترك" الذي يجمعها به: محاربة تركيا واقتلاع الإخوان المسلمين...هنا، والآن، لا أحد يستطيع المزايدة على الأسد، فهو يخوض حرباً مع تركيا في شمالي بلاده، وهو كان سبّاقاً، في إعلان "الإخوان" جماعةً إرهابية، قبل أزيد من أربعين عاماً، في حين، لم يفطن بعض العرب لهذه المسألة سوى مؤخراً.
أزمة ناغورنو كاراباخ، كشفت تهافت "الخطاب الديني – المذهبي"، وعرّت منظومة المصالح المُقَرِرَة لسياسات الدول وتحالفاتها، وأعادت خلط الأوراق والتحالفات...المتحاربون في ساحات شتى التقوا هنا على هدف واحد، والأخوة في المذهب، فرقتهم المصالح والحسابات الجيو-استراتيجية والجيو-سياسية...هنا، مرة أخرى، تُختبر كذلك "أكذوبة التضامن المسيحي"، وهي الأكذوبة التي سقطت في سوريا والعراق من قبل، عندما وقف الغرب المسيحي متفرجاً على معاناة مسيحي الشرق، ولم تكن لديه من "نصيحة" للمهجّرين منهم، سوى قرع أبواب سفاراته، حتى وإن أدى ذلك إلى إفراغ هذه الشرق، من وجودهم التاريخي – المؤسس.