بقلم - عريب الرنتاوي
حظيت الدعوة التي وجهها الرئيس الفلسطيني لعقد مؤتمر دولي للسلام، برعاية الأمم المتحدة ومشاركة "الرباعية الدولية"، باهتمام وترحيب من قبل معظم أعضاء مجلس الأمن الدولي في جلستهم المفتوحة التي التأمت بتاريخ السادس والعشرين من أكتوبر الفائت، وساندتها مواقف وبيانات داعمة، صدرت عن دول أفريقية وجامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
مسؤولون فلسطينيون كبار، سارعوا للترحيب بالتجاوب العالمي مع الدعوة الفلسطينية، ورأت غالبيتهم، بأن المناقشات في المنتظم الدولي، أظهرت عزلة الولايات المتحدة وإسرائيل، وشددت على "مركزية" القضية الفلسطينية، معربين عن تفاؤلهم بإمكانية عقد المؤتمر في الموعد الذي طلبه الرئيس عباس، مطلع العام المقبل، أي بعد الانتخابات الأمريكية.
إن كان المقصود بالدعوة للمؤتمر الدولي، "تعويم" القضية الفلسطينية وإعادة الاعتبار للسلطة الوطنية، فربما تكون المحاولة قد سجلت بعض النجاح، أما إن كانت "الفرصة الأخيرة" لإنقاذ "حل الدولتين" وتمكين الفلسطينيين من استرداد حقوقهم الوطنية المشروعة، كما سارع بعض المتفائلين من قيادات السلطة للقول، فإن لدينا من الشكوك ما يكفي للطعن بصحة القفز إلى استنتاج متسرع كهذا.
أولاً؛ ليست المرة الأولى التي يدعو فيها الفلسطينيون لعقد مؤتمر للسلام، يغلق صفحة الانفراد الأمريكي بالوساطة والرعاية، والتي تكرست بحكم الأمر الواقع على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، وفي كل مرة طرحت فيها مبادرة من هذا النوع، كانت تلقى ترحيباً مماثلاً ... لكن مختلف المواعيد "المبدئية" التي ضربت لانعقاد المؤتمر، قد تم "نزع قداستها" وجرى تجاوزها من دون إخطار أو إجابة على سؤال: لماذا أخفقت هذه المحاولات، برغم كل هذا التأييد العالمي لها؟
ثانياً؛ ليس الفلسطينيون وحدهم من يلوّح بين الحين والآخر بضرورة انعقاد مؤتمر دولي للسلام، الفرنسيون سبق وأن تقدموا بمبادرة مماثلة في العام 2016، والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند بدا شديد الثقة والحماسة للفكرة، لكن مشروعه ذهب أدراج الرياح، بمجرد إشارة من واشنطن، تفيد برغبتها في سحب المبادرة الفرنسية، تحت طائلة الامتناع عن المشاركة في المؤتمر المذكور.
ثالثاً؛ خلال السنوات الثلاثين (تقريباً) التي أعقبت مؤتمر مدريد للسلام، تعاقبت على البيت الأبيض إدارات جمهورية وديمقراطية، بعضها أولى اهتماماً بحل هذا الصراع: "بوش – بيكر"، كلينتون وأوباما، ورغم تباين المقاربات وتفاوت درجة الاهتمام والتركيز، إلا أن رفض فكرة "المؤتمر الدولي" ظل قاسماً مشتركاً أعظماً بين هذه الإدارات، جميعها رفضت فكرة "المؤتمر الدولي"، وجميعها أصرت على الانفراد والتفرد الأمريكيين بالرعاية والوساطة، استمراراً لنهج أقدم وأبعد، بدأ في العام 1973 حين عقد مؤتمر جنيف للسلام في أواخر تلك السلام، برعاية أممية ورئاسة سوفياتية – أمريكية مشتركة، وللمرة الأولى والأخيرة، ومن يومها لم يعد للاتحاد السوفياتي دور "الشريك" في هذه العملية، ولم ترث روسيا دوراً مركزياً فيها بعد انحلال الاتحاد السوفياتي، ولعل أكثر ما بلغته "روسيا – بوتين"، هي عضوية "الرباعية الدولية"، التي انتهى دورها قبل أن يبدأ، وتحوّل ممثلها المقيم في المنطقة: طوني بلير، إلى "سمسار" يروّج لنظرية السلام الاقتصادي والتطبيع قبل انهاء الاحتلال، قبل أن ينتقل إلى عقد الصفقات المالية المشبوهة مع بعض عواصم المنطقة.
رابعاً؛ ثمة ارتباط وتزامن وثيقين بين طرح فكرة المؤتمر الدولي والاستحقاق الرئاسي في واشنطن، وثمة "تعويل" رسمي فلسطيني كبير على مجيء إدارة ديمقراطية بزعامة بايدن إلى البيت الأبيض ... لن يذهب الثنائي بايدن – هاريس إلى أي مؤتمر دولي، ولن يتحمس أي فريق دولي لانعقاد المؤتمر، بغياب واشنطن وتل أبيب، والمؤكد أن الدولتين ستقاطعان المؤتمر العتيد، يبدو أن النكبات والصفعات التي مُني بها الشعب الفلسطيني طول ثلاثين عاماً من "السلام الخادع"، لا تكفي لدفع بعض الفلسطينيين للخلاص من "أحلام اليقظة"، البعض يصر على التصرف بوصفه "غريقاً" يبحث عن "قشة" يتعلق بها، لا لإنقاذ شعبه وقضيته أساساً، بل لتعويم السلطة والقيادة أساساً.
خامساً: أن يُطرح المؤتمر الدولي، بوصفه "مبادرة اعتراضية" و"تكتيك سياسي" هدفه تفكيك عزلة السلطة وتآكل مكانة القضية، فهذا أمرٌ قد يكون مفهوماً ومجازاً، أما أن تعيد فكرة المؤتمر بعث "الأوهام" و"الرهانات" الخائبة، كالقول مثلاً: أنه "آخر فرصة للسلام"، فتلكم هي الطامة الكبرى، فالفرص الأخيرة للسلام و"حل الدولتين" استنفذت قبل مجيء ترامب، ودفنت ووريت الثرى بعد مقدمه غير الميمون، ولا أحسب أنه بمبادرات من هذا النوع، يمكن إحياءها... بعضنا يبدي إصراراً عجيباً على سلوك الطريق ذاته، على أمل الوصول إلى نهاية مغايرة، وتلكم بحد ذاتها، خطيئة لا تغتفر.