بقلم - عريب الرنتاوي
ما أن لاحت في الأفق الأميركي بوادر فوز إدارة ديمقراطية بزعامة جو بايدن، حتى دخلت منطقة الشرق الأوسط برمتها، في حالة من الجدل والحراك والانقسام، لينطلق في إثرها، طوفان من التوقعات والتكهنات الخاصة بالكيفية التي ستتعامل بها الإدارة الجديدة، مع إيران بملفاتها المختلفة.. الانقسام حول أي الاستراتيجيات، أكثر نجاعة في احتواء النفوذ الإيراني وتغيير سياسات طهران، لم يقتصر على إدارتي ترامب وبايدن، بل شمل عواصم المنطقة عموماً، والمشرق والخليج وإسرائيل على وجه الخصوص.
الجدل المحتدم اليوم في عواصم الإقليم، يعيد إلى الأذهان، ما كان دائراً من خلافات وانقسامات قبل خمس سنوات، حين تم التوقيع على الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1" في لوزان، قبل أن تقدم الإدارة الجمهورية، على الانسحاب منه بعد ثلاث سنوات، ومن جانب واحد، باعتباره، كما ظل الرئيس دونالد ترامب يكرر: أسوأ اتفاق في التاريخ.. المواقف ذاتها، والأطراف ذاتها، مع فارق رئيس واحد، يتمثل في كون الدول التي ناصبت الاتفاق النووي العداء قبل وبعد توقيعه، وأقصد إسرائيل ودول خليجية، السعودية أساساً، تجد نفسها اليوم أكثر تقارباً، وتميل للتنسيق والتعاون المعلن وشبه المعلن، فيما سيناريو "التحالف الاستراتيجي" بينها، لمواجهة إيران، لم يسحب من التداول طوال هذه الفترة، ودائماً بدعم وتشجيع من قبل إدارة ترامب.
يصعب بحال من الأحوال، تصنيف إدارة أوباما بايدن، على أنها كانت صديقة لجمهورية إيران الإسلامية، وإن اعتمدت مبدأ "احتواء إيران" بدل إقصائها وعزلها، رهاناً منها على أن الاتفاق النووي، من شأنه قطع طريقها للوصول إلى "القنبلة"... واشنطن في عهد تلك الإدارة، راهنت على أن إدماج إيران في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي (طاقة وأسواقاً ومصارف)، من شأنه أن يصرف اهتمامها عن "زعزعة الأمن والاستقرار" في الإقليم، وأن تطوراً كهذا، سيسهم في تعزيز مكانة "الإصلاحيين والمعتدلين" داخل النخبة الحاكمة في إيران، وسيعزز قدرة المجتمع الإيراني، وقوى الحرية والتغيير في أوساطه، على المطالبة بمزيد من الحريات والإصلاحات، الكفيلة وحدها بتغيير سياسات النظام ونهجه، طالما أن أحداً في واشنطن، لا يطالب بتغيير النظام أو إسقاطه، رسمياً وفي العلن على أقل تقدير.
"مبدأ أوباما" في التعامل مع إيران، نهض على رهانات "متوسطة وطويلة الأجل"، فالتغيير المنشود بنتيجة هذه المقاربة، لا يمكن أن يكون فورياً، وربما سيحتاج لعقد من الزمان حتى تكتمل مفاعيله وتتضح آثاره، لكن انتقال السلطة في الولايات المتحدة، بنتيجة انتخابات 2016، وبعد فترة قصيرة على إبرام الاتفاق مع طهران، لم يوفر الفرصة لاختبار هذه الفرضية والحكم عليها، فكان "الانقلاب" على الاتفاق، سبباً في استحداث نتائج معاكسة، حيث علا صوت المحافظين والثوريين في إيران، ووجد الإصلاحيون والمحتجون في شوارع طهران، أنفسهم أمام قبضة محافظة وخطاب إيديولوجي متشدد، يقوم على توظيف "التهديد الخارجي" للإبقاء على سطوة هذا التيار في الداخل الإيراني.
وليس خافياً على أحد، أن "مبدأ أوباما" في التعامل مع إيران، تأثر إلى حد كبير، بنظرة أميركية كانت سائدة في تلك الأزمنة، جاءت متأثرة بمناخات "الحرب على الإرهاب"، وتربط بين تفشي تهديد الحركات الإرهابية (داعش، القاعدة والنصرة) من جهة، وحركات الإسلام السياسي السنيّة، وتحديداً تلك المستندة إلى القراءات "السلفية" و"الوهابية" من جهة ثانية، وموطن الأخيرة كما هو معروف، يقع على الضفة العربية للخليج وليس على ضفته الفارسية.
أثارت مقاربة أوباما للملف الإيراني، قلق وحفيظة اثنيتن من الدول الوازنة والحليفة للولايات المتحدة: إسرائيل و السعودية، وبعض حلفائها الأقل وزناً في الإقليم، فانتهجت هذه الدول، سياسات ومواقف، سعت من ورائها إلى تعطيل الاتفاق قبل الوصول إليه، ولاحقاً، الكشف المستمر عن عيوبه ومثالبه، وتحريض فئات وشرائح أميركية عليه، إلى أن جاءت انتخابات 2016، لتحصل هذه الأطراف على مبتغاها: "حليف قوي" في البيت الأبيض، يشاطرها الرؤية ذاتها.
"مبدأ ترامب" في التعامل مع إيران، اعتمد "فرضيات" معاكسة تماماً لتلك التي نهض عليها "مبدأ أوباما"، يمكن تلخيصها على نحو مكثف بسياسة "الضغوط القصوى"، والتي تستهدف "خنق" إيران، و"تصفير" صادراتها النفطية وغير النفطية، وإخراجها من المنظومة الدولية، للاقتصاد والطاقة والأسواق والمصارف، بل وإعادتها عقوداً طويلة للوراء، على أمل أن تأتي القيادة الإيراني "جاثية على ركبتيها"، طالبة التفاوض على اتفاق جديد بشأن برنامجيها النووي والصاروخي ودورها الإقليمي في المنطقة... ومقابل "المقاربة طويلة الأجل" التي قام عليها "مبدأ أوباما"، راهن ترامب على نتائج فورية وذات آجال قصيرة، وكلما كانت إيران تبدي "مقاومة" أو ممانعة"، كانت الضغوط الأميركية تشتد عليها، وأطواق الحصار تلتف حول عنق اقتصادها، ودائماً بانتظار "مكالمة هاتفية" من الرئيس حسن روحاني إلى البيت الأبيض، يطلب فيها الصفح ويعرض "عودة الابن الضال".
لكن ذلك لم يحدث على الإطلاق، واستطاعت إيران، طيلة سنوات أربع، أن تواصل العمل ببرنامجها النووي، بل وأن تنسحب من قيود واشتراطات اتفاق لوزان، وكلما كانت الدول الأوروبية الأطراف في الاتفاق، تبدي عجزاً عن تعويض طهران على خسائرها المترتبة على "مبدأ ترامب"، كلما كانت طهران توغل في "خرق تعهداتها" والتزاماتها بموجب الاتفاق المذكور... سياسة "الضغوط القصوى" لم توقف إيران عن تطوير برنامجها الصاروخي، ولم تنجح في احتواء دورها الإقليمي أو "عقلنته"، إذ برغم المصاعب المالية التي واجهت طهران، إلا إنها نجحت في تعزيز نفوذها في كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان، وصولاً إلى أفغانستان.
استقبلت إسرائيل والسعودية "مبدأ ترامب" بكثير من الارتياح والتشجيع... وبحجة مجابهة التهديد الإيراني نجحت الأولى في الحصول على ما يعزز قبضتها على الضفة الغربية والقدس والجولان (صفقة القرن وملحقاتها)، ووقعت الثانية صفقات تسلح فلكية مع إدارة ترامب، حفّزتها على المضي في طريق "خنق" إيران، وتعزيز مكانة المملكة وتوفير شبكة حماية لقادتها، إن في مواجهة انتقادات الداخل (خاشقجي، الاعتقالات)، أو في مواجهة مغامرات الخارج (اليمن وحصار قطر).
وفي السياق ذاته، ستشهد العلاقات الإسرائيلية الخليجية، قفزة جديدة، تتخطى "تطبيع" العلاقات، إلى إرساء قواعد "حلف استراتيجي" جديد، في مواجهة طهران، وبتشجيع (وضغط) من إدارة ترامب، وسينتقل تركيز الإدارة على محاربة الجماعات الإسلامية الشيعية المسلحة في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن، وستدرج أسماء أعداد متزايدة من كياناتها وقياداتها في اللوائح السوداء للجماعات الإرهابية، وهو المسار الذي شهد ويشهد تصاعداً في "ربع الساعة الأخيرة" لإدارة ترامب.
إذ تخشى أوساط إسرائيلية وخليجية – سعودية، من عودة إدارة بايدن إلى إعادة انتاج "مبدأ أوباما" في التعامل مع إيران، فإن إيران ذاتها، تبدي قدراً من الحذر حيال تقدير من هذا النوع، فيما أوساط سياسية أميركية وإقليمية، تعرب عن اعتقادها بأن الرئيس المنتخب، سيزاوج في مقاربته لملفات طهران، بين نظرية "الاحتواء" وسياسة "الضغوط غير القصوى"، فعودته للاتفاق النووي، لن تكون تلقائيه، بعد أن جرت مياه ثقيلة في عروق البرنامج النووي الإيراني، وبعد أن نجحت طهران في تطوير برنامجها الصاروخي وتعزيز دورها الإقليمي، وربما هذا من بين أسباب أخرى عديدة، حدت بالرئيس المنتخب جو بايدن، للقول بأن إدارته المقبلة، لن تكون "ولاية ثالثة" لباراك أوباما.
ستبدي إدارة بايدن استعداداً للانخراط النشط في مفاوضات جادة مع طهران، تشتمل من بين موضوعات أخرى، على فتح الاتفاق النووي لمزيد من التعديل والتحديث، سيما في "الرزنامة الزمنية" التي يتضمنها، وقد مضى على تعثرها ما يزيد عن ثلاث سنوات، تعترف طهران بأنها تراجعت خلالها عن التزاماتها... وستجد واشنطن دعماً لمسعاها هذا من قبل أطراف أخرى موقعة على الاتفاق.
وستمارس واشنطن ضغوطاً على إيران في الملفات الأخرى، وستُبقي العقوبات المفروضة على طهران على خلفية "حقوق الانسان" و"البرنامج الصاروخي" و"دورها الإقليمي"، وسترفع بشرط الوصول إلى "اتفاق معدّل" العقوبات المفروضة على خلفية برنامج طهران النووي، وستحاول الولايات المتحدة تحت قيادة بايدن، تفادي السلوك "الأحادي"، وستعمد إلى إشراك أوروبا وبريطانيا، وربما الصين وروسيا، في مقارباتها الجديدة، فالرئيس المنتخب وفريقه للأمن القومي والسياسة الخارجية، أوضحا بما يدع مجالاً للشك، أن استعادة واشنطن لدورها القيادي العالمي سيكون مقروناً باعتماد التعددية "Multilateralism"، مما يفضي إلى تضييق "هوامش المناورة" وتقليص "حرية الحركة" وإضعاف فرص "اللعب على التناقضات الدولية" أمام طهران.
إدارة بايدن – هاريس، مثل إدارة أوباما – بايدن، يرجح أن تعتمد على ما يمكن أن تطلقه سياسة "الاحتواء" المشفوعة بـ"الضغوط"، من ديناميات في الداخل الإيراني، تفضي إلى تغيير سياسات النظام وسلوكه، وليس بالضرورة تغيير النظام ذاته، وهي سياسة تتسم بـ"النفس الطويل"، وربما لا تكون تبحث عن إنجازات سريعة وخاطفة، كتلك التي طالما بحثت عنها إدارة الرئيس ترامب.
مثل هذه السياسة، لا ترضي الحلفاء الكبار لواشنطن في المنطقة: إسرائيل والسعودية، وهما شرعتا على أية حال في التحذير من مخاطرها، والعمل على حرفها عن وجهتها، ووضع العراقيل على طريقها، وفي هذا السياق أساساً، يمكن النظر إلى انتقال العلاقات السعودية – الإسرائيلية من السر إلى العلن، وبه وحده، يمكن الإجابة على سؤال: لماذا يستعجل كل من محمد بن سلمان وبنيامين نتانياهو، تطبيع العلاقات وتعزيز التعاون فيما بينهما، كما اتضح من زيارة نتانياهو الأخيرة للسعودية ولقائه ولي عهدها في مدينة "نيوم" على البحر الأحمر... لكن من غير الواضح حتى الآن، ما إذا كانت الرياض وإسرائيل، ستعتزمان تنسيق سياسة مشتركة في "مواجهة" بايدن، أم أنهما ستميلان أكثر إلى التنسيق والتفاهم مع هذه إدارته، والسعي للتأثير عليها، بعد التعرف على الحدود التي يمكن أن تصلها في الانفتاح على إيران.