من حق قطر، كأي دولة أخرى في الإقليم والعالم، أن تكون لها سياساتها ومواقفها وأدوارها الخاصة، وأن تسعى في خدمة مصالحها وتعظيم أدوارها من خلال ما تتوافر عليه من أدوات، شريطة أن تكون مشروعة ومنسجمة مع مبادئ حسن الجوار والقانون الدولي ...
ومن واجب الآخرين احترام ذلك، وعدم النظر للاختلاف بوصفه انشقاقاً عن الصف، أو تجاوزاً على الإجماع العربي... ولا ينبغي أن يفضي الاختلاف إلى انهيار الأطر والمؤسسات التحالفية، أو أن يستدعي العزل .
أما نحن ومن موقع المراقب للمشهد الخليجي، فلدينا مقارباتنا للسياسة والدور القطريين، وهي مقاربات لا تنسجم أبداً مع مساعي “شيطنة” الإمارة التي تنشط هذه الأيام بكثافة، والمؤكد أنها لا تنتمي على عوالم “حرق البخور” التي احترفها نفرٌ من الإعلاميين والباحثين والشيوخ و”المفكرين”، فنحن على قوائم الإعلام القطري “البيضاء” منذ بواكير الربيع العربي.
لقطر موقف من إيران، لا يُخفي رفضه لبعض سياساتها وتحالفاتها، ولكنه يعترف بموقع إيران ودورها الإقليمي، ويشدد على ضرورة اعتماد الحوار والنهج الديبلوماسي في التعامل معها، وهي وإن اختلفت مع إيران بقوة في سوريا على وجه التحديد، إلا أنها تلتقي معها في مواضيع أخرى في ميادين الطاقة والاقتصاد والأزمات الإقليمية، وهذا موقفٌ يتسم بعقلانية أكبر من سياسة “شيطنة” إيران واستعدائها وتقديمها بوصفها العدو الأول والتهديد الأخير للأمن القومي العربي ولأمن الخليج واستقراره ... قطر في هذه النقطة بالذات، ليست معزولة تماماً فهي تشاطر الكويت وعمان المواقف ذاتها تقريباً وإن بتفاوت.
وقطر تحتفظ بعلاقات وثيقة مع حماس، وتحتضن مكتبها السياسي منذ خروجها من سوريا قبل خمس سنوات ... لا اعتراض على ذلك، والدوحة لا ترى حماس تنظيماً إرهابياً، ونحن نشاطرها الرأي ذاتها، وكثيرون يشاطرونها الرأي ذاته كذلك ... وقطر تحتفظ بخيوط وعلاقات جيدة نسبياً مع السلطة الفلسطينية والرئيس عباس شخصياً، وذلك أمرٌ محمود، ندعمه ونحض عليه، ونطالب جميع الدول العربية بالانفتاح على مختلف الكيانات الفلسطينية السياسية وتوظيف علاقات متوازنة معها من أجل تشجيعها على استعادة الحوار والمصالحة والتأسيس مجدداً لوحدة وطنية فلسطينية صلبة.
لكننا مع ذلك، نرفض أن يُقال إن حماس هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، فهناك ممثل شرعي وحيد لهذا الشعب، معترف به عربياً ودولياً، هو منظمة التحرير الفلسطينية، والجهد القطري يجب أن ينصب لإقناع حماس بالانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية وتذليل أية عقبات تحول دون انضواء جميع فصائل العمل الوطني الفلسطيني تحت مظلة المنظمة.
وإن كنّا من أنصار تدوير الزوايا الحادة في مواقف حماس وسياساتها، والتي تعمل الدوحة عليها، فإننا نريد ذلك لمصلحة الشعب الفلسطيني أولاً، ومصالحه ومصالحته الوطنية ثانياً، ومن أجل حماس ثالثاً ... لكننا نقلق بشدة من الأنباء التي تكشف عنها الدوحة، وتشير إلى محاولات تسويق حماس وتسويغها لدى الإسرائيليين والأمريكيين، لتكون بديلاً عن الممثل الشرعي، طالما أنها الممثل الشرعي، وفقاً للتصريحات/ التسريبات المنسوبة لأمير البلاد الشاب ... ونرفض أن يندرج الجهد القطري في سياق صراع المحاور الإقليمية على الورقة الفلسطينية، كأن تدعم قطر وتركيا، بالتعاون مع الإخوان المسلمين، محاولات لتأهيل حماس لوراثة فتح والسلطة والمنظمة، وإعدادها لمرحلة “ما بعد الرئيس عباس”، ودائماً في سياق صراع الأدوار وحروبها.
ونحن كنا من المدافعين عن حق جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية وغيرها، في العمل السلمي والمشاركة السياسية، ووقفنا ضد حملات “شيطنة” الإخوان في ساحات عربية عديدة، ومن ضمنها الأردن، لكننا في الوقت ذاته، كنا من أشد منتقدي الجماعة لتقاعسها عن تطوير خطابها السياسي ومراجعة مرجعياتها الفكرية، وتأصيل قيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان في مواقفها وممارساتها، ورفضنا ونرفض مواقفها الرمادية من الإرهاب والتطرف، ودعوناها للتخلي عن نظريات “السمع والطاعة” و”التمكين” و”التنظيم الخاص” و”دمج الدعوي بالسياسي” وغير ما هنالك من ممارسات ومواقف مثيرة لقلق الأنظمة بقدر إثارتها لقلق شركاء الجماعة في الوطن من تيارات ومكونات أخرى.
المسألة مع قطر تختلف تماما، فهي تتبنى الجماعة ظالمة ومظلومة، وتنطلق في دعمها لها من فرضية مفادها أن “تحالف المال القطري مع النفوذ الجماهيري الواسع للجماعة”، قمين بتشكيل قاعدة (أو بنية تحتية) للدور الإقليمي الذي تطمح الإمارة القيام به، وبالرغم من أنف محددات وقيود الجغرافيا والديموغرافيا وغيرهما من عوامل، لا تخدم قطر وأحلامها... نختلف مع قطر تماماً عندما يتحول دعمها للجماعة إلى مصدر تهديد لأمن دول في المنطقة واستقرارها وسلامة نسيجها الاجتماعي وصلابة مؤسساتها ... هنا تخرج المسألة عن مجرد كونها مقاربة أو وجهة نظر، لتصبح ضرباً من اللعب في النار.
ولقطر الحق في التطلع لتعظيم دورها الإقليمي، كثيرون في المنطقة، ومن خصوم قطر بالذات، يفعلون الشيء ذاته، وأحياناً بعناد صلب مع قيود الجغرافيا والديموغرافيا كذلك ... لكن أن يتحول هذا الطموح إلى هاجس، تُستصغر معه مصالح الدول الأخرى في المنطقة واستقرارها، وتستخدم في سبيل تجسيده مختلف الأدوات، المشروع منها وغير المشروع، فتلكم حكاية أخرى، تضع قطر أولاً في دائرة المساءلة والاتهام.
والحقيقة أن “تضخم الأنا القطرية”، تخطى حدود التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين بوصفها الحليف في مشروع الدور الإقليمي، إلى جماعات أخرى من الإسلام السياسي العنيف، ومن بينها قوى مدرجة على قوائم الإرهاب في الأمم المتحدة... هنا، وهنا بالذات، يجدر التأكيد على أن السياسة الخارجية لا تتقرر ولا تصاغ وفقاً لمنطق المناكفات والنكايات، فالأسد صديق قطر القديم، وحليفها الأول، لا يُعاقب بدعم النصرة والسلفية الجهادية ومختلف جماعات الإسلام السياسي والعنيف، لأنه لم يصغ لنصائح الدوحة (؟!)، وتغيير النظام في سوريا، لا يمكن أن مشروعاً بأي ثمن ولصالح أية بدائل .... هنا الوردة فلنرقص هنا.
لا يعني ذلك أن خصوم قطر على صواب دائم وهي على خطأ مقيم، فقد مارس البعض منهم السياسة القطرية “معكوسةً”، وبصورة ألحقت وتلحق بدورها، أضراراً جسيمة بدول ومجتمعات عربية عديدة، من اليمن حتى فلسطين، ومن ليبيا حتى العراق مروراً بسوريا ولبنان ... لكن ما نرغب التأكيد عليه، أن دولة كقطر، وهناك دول وإمارات خليجية أخرى مؤهلة لأن تلعب دور “الواحة السويسرية” في صحراء المنطقة القاحلة، بدل الإغراق في وهم التحول إلى “سبارطة الجديدة”، وأن تكون جسراً للقاء والتلاقي لا جدران تفرق وتمزق، وأن تكون محطة لحوار الأطراف المختصمة بدل أن تكون مفترقاً حاداً، لا لقاء بعده ... البعض يرى أن الوقت قد فات على دور كهذا، ولكن في السياسة ليس هناك نهاية مطاف أو نقطة لا عودة، ودائما ما يظل الباب مفتوحاً لصفقات وتسويات ومراجعات واصطفافات وأدوار جديدة.