بقلم - أسامة الرنتيسي
نشرت قبل أيام فيديو لأغنية لفرقة الفحيص لإحياء التراث فوصلت آهات الحسرة للأصدقاء والمعلقين على الفيديو على الزمن الجميل إلى مدايات تُوجع الروح وتجعل في القلب غصة.
وطُرح سؤال عميق في أكثر من تعليق لِمَ أضعتموها.. مع أنها كانت من عناوين وهُوية الفحيص والاردن الحضارية؟.
سأترك الإجابة عن هذا السؤال لأهم عنصر في بناء الفرقة الفنان الكبير صخر حتر (ابن صفي وعازف العود منذ ان كنا تلاميذ في المرحلة الابتدائية بدعم وتشجيع من الاستاذ الياس غانم أطال الله عمره) على أمل ان يوافينا بإجابته الشافية.
الجملة التي لا يمكن إلا أن تسمعها في الأردن وفي عدد من الدول العربية الأخرى: “سقى الله أيام الزمن الجميل”.
المحبَطون، وهم كثيرون هذه الأيام، يرددون: “الأردن قبل 30 عاما كان أجمل، والمجتمع آمن وأكثر رخاء، وحياة الناس كانت أكثر دفئا وحميمية، والبلاد في حالة تطور، والناس يحبون بعضهم بعضا..”. كل هذا صحيح، وهذا أيضا ينطبق على كل البلدان العربية، ولكن.. هل المشكلة في الزمن الجميل الذي ولّى بغير رجعة، أم فينا نحن، أم للدقة في بعض منا؟ من الذي يريد أن يمسك قرن الزمن ليعيده إلى الخلف وصولا إلى الفردوس المفقود؟
حين تتردد في أيامنا عبارة الزمن الجميل، فالمقصود هو الماضي الذي تسرّب منّا، ولم يبق منه سوى الذكريات والأطلال، فهل كان الماضي بالفعل جميلا، ولم يكن فيه كل هذا الشقاء، وخاليا من الفقر والمرض والجهل؟ أم أنه امتاز بهذه القيمة لأنه مضى ولن يعود؟
الماضي مهما كان جميلا فقد كان أشدّ قسوة على الإنسان من الحاضر، ومتوسط أعمار البشر بلغ ثلاثين عاما فقط في بعض الأزمنة، إذ كان بمقدور فأر مريض أن يتسبب في وباء يدمر حضارة.
لاحظوا كيف يواجه العالم اليوم الأوبئة. ففيروس إنفلونزا الخنازير، قبل سنوات والكورونا حاليا، لو جاءا في زمن آخر غير زماننا لفتكا بشعوب الأرض مثلما كان يفعل الطاعون، لكن التقدم العلمي والإنساني هذه الأيام قادر على محاصرة كل الأوبئة، ويقود المجتمعات إلى التقدم والرقي.
حتى ذائقتنا الفنية اختلفت. صحيح أن بعضنا يدلف إلى الماضي لتجديد شبابه، فيهرب إلى أمسيات غنائية كانت تُبدعها سيدة الغناء العربي أم كلثوم، لكنه هروب إلى المجال الزمني الذي تبددت فيه أيامنا وأعمارنا، ذلك الذي أخذ معه آلامنا وكل ما ناءت به أرواحنا وأكتافنا، ولم يبق منه غير أرواح أصابها الجفاف.
في الزمن الماضي، كانت أم كلثوم تغني لنخبة وعلية القوم، بحضور مشترك للزوج وزوجته، للحبيب وعشيقته، لم تكن قضية “التعليم المشترك” أو “الاختلاط” أولوية تعليمنا، ولم تكن قضية ارتداء الحجاب والنقاب ساحة صراع مشايخنا، كان الحضور النسائي كله بلا حجاب، فهل كانوا غير مسلمين؟ أم أن الزمن أوجد فينا من يريد أن يجرنا إلى جنّته بالسلاسل، مدعيا أنها بلا موسيقى؟
أقول دائما لابنتي “وسن” التي درست الصحافة والإعلام في جامعة اليرموك، كبقية الآباء الذين يرصدون أبناءهم بأعين الماضي.. فتبدو لهم صورة الحاضر قاتمة: أنت يا بنيتي تشرقين وأنا أغرب، ليس حنينا إلى الماضي، بل لأن قوة نداء الحياة أعلى من قوة وداع الموت، ولأن الإقبال أكثر جذبا لنا من الإدبار.
إن الجميل ليس الزمن الذي مضى ولن يعود، بل أوهام ذاك الزمن التي يغذّيها راهن بالغ القسوة والقيد، وعقليات تريد أن نعيش اليوم بأجندة عمرها تجاوز ألف عام.
دعونا لا نظلم الحاضر، ولنحاسبه بقدر ما نقدّم له، لا ما نجلده به يوميا، ففي الماضي كان هناك فقر وجوع وظلم ومرض، والآن هنا جهاز هاتف صغير “ذكي” يحضر إليك العالم بين يديك.. فأيهما أجمل؟
في زمن الكورونا، والحسرة على الأيام الجميلة، لا ترياق لهذا الفيروس اللعين قبل إنتاج اللقاح إلا الفن والموسيقى والمسرح والغناء وكل أشكال الفنون.
ومثلما قال ابو حامد الغزالي: “من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج”.
الدايم الله…..