بقلم: أسامة غريب
لست ممن يحنّون إلى قصة حب قديمة أو يستعيدون ذكريات أيام خالية بتصور أنها كانت كفيلة بتقديم سعادة أكثر مما حصلنا عليه.. لكننى مع ذلك من أولئك الذين يتمنون لو عادت الأيام من جديد حتى يعيشوا الحياة بطريقة أخرى ويشقّون لأنفسهم طريقاً مختلفاً عما اتخذوه بالفعل. من أجمل أحلامى التى تمنيتها عندما كنت صغيراً خالى الذهن عن اعتبارات اللياقة الاجتماعية وباقى الأفكار الخائبة أن أشتغل خبازاً. كنت أمر بجوار مخبز ملاصق لبيتنا فى الطفولة فأشم رائحة الخبز الطازج لحظة خروجه من الفرن. هذه الرائحة كانت تطيح بصوابى من فرط روعتها وكانت تمدنى بزاد من الأمل والتفاؤل طوال اليوم.. هل تصدقون أن رائحة الرغيف يمكن أن تصنع هذا بإنسان؟.. صعب ولكنه حدث معى لدرجة أننى تمنيت لو أنهم استطاعوا تعبئة هذه الرائحة فى زجاجات حتى أحمل زادى فى جيبى فأستخدمه عندما يداهمنى الاكتئاب أو تناوشنى الأفكار السوداء. لذلك صار حلمى أن أعمل خبازاً يقدم للناس الأمل والسعادة ويمنح نفسه فرحة متجددة.. لكن مع الأسف لم تسمح الدنيا لى بذلك ودفعت بى فى سكك أخرى، ثم جعلت منى أشياء كثيرة، كلها لا تأتى للقلب بالفرحة ولا للنفس بالطمأنينة.
ليس هذا هو الحلم الوحيد الذى ضاع، لكن لو عادت بى الأيام إلى زمن الصبا من جديد فقد لا أتخلى هذه المرة عن أن أكون عازفاً متجولاً بالشوارع أحمل قيثارتى معى وأجلس بها على الرصيف أنى شئت ثم أبدأ بالعزف وأنتقل من مدينة لمدينة ولا أستقر فى مكان واحد.. وإنى أعترف بأننى طالما حسدت هؤلاء الشباب الذين رأيتهم فى أوروبا يعزفون فى محطات المترو وفى الحدائق ويعيشون حياة الطيور التى تزقزق وهى تنتقل من غصن لغصن ويمضون فى حياة خالية من الملل والنفاق وارتداء ربطات العنق وانتظار العلاوة الدورية. وبطبيعة الحال لست جاهلاً بطبيعة ما يلاقيه هؤلاء من شظف العيش وتمنِى بعضهم أن يلتحق بوظيفة مستقرة لها مكتب ودخل ثابت، ولا أنا غافل عن أن بعضهم قد يغبطنى ما أنا فيه ويعرض بكل أريحية أن يبدّل معى وأن يعطى كل منا للآخر ما يملكه.. أستطيع أن أتفهم ذلك لأنه من النادر أن يرضى أحد عن حاله.. ورغم ذلك فإننى لا أتردد لو بدأت الحياة من جديد فى أن أفعلها بعد أن جربت الحياة التى يخضع فيها المرء لمقاييس الآخرين ويفعل أشياء لا تسعده لمجرد أنها تأتى بالمال وبالمكانة. لكن لكى أكون صادقاً أصارحكم بأننى لن أكون خبازاً أو عازف هارمونيكا هنا فى هذا الوطن الذى يضرب بالجزمة كل من أراد أن يؤكد نفسه أو أن يحيا سعيداً خارج وصاية المجتمع. سوف يتعين أن أهاجر إلى الخارج حتى أستطيع أن أقف شامخاً فى المخبز الذى أعمل به أتبادل الضحكات والنكات مع الزبائن، أو أن أقف فخوراً على إحدى النواصى أعزف ألحانى بالقيثارة دون خوف من أن يظهر لى ناطور يتقاسم معى رزقى أو يصفعنى على قفايا.