بقلم: أسامة غريب
عزف الملحن الكبير على عوده وشدا بالكثير من ألحانه الرائعة وملأ الأفق سحراً وغناء، وغنت كذلك المطربات العربيات.. أما عن فقرة الرقص فقد تشاركتها الراقصات الشرقيات جنباً إلى جنب مع رفيقاتهن الغربيات. كان الطعام والشراب من النوع الفاخر الذى لم يألفه الشاعر الجنوبى الطيب صديق الكادحين، عاشق الشوارع والحوارى والناس الطيبين. فى تلك السهرة سُفِحت جبال من الكافيار والفواجرا، وأريقت أنهار من الشمبانيا والكورفوازييه، ووجد الشاعر نفسه مأخوذاً بهذا الجو العجيب وهذه الدنيا المخملية التى لم يتصور وجودها.. لا يستطيع أن يصف نفسه فى هذه السهرة بأنه سعيد رغم كل ما بها.. هو محتار أكثر منه سعيدا، ويشعر بغربة وسط هؤلاء الناس. اندفع إلى الطعام والشراب حتى ينخمد داخله هذا العقل الذى يفكر وحتى يتمكن من الاندماج مع الحضور مثل صديقه الملحن الذى بدا فى أحسن أحواله مستمتعاً بالغناء والرقص والطعام والشراب والنساء.. بكل شىء.
فى نهاية السهرة قام متخماً يجر قدميه إلى غرفته وتحسس المفتاح فى جيبه قبل أن يدسه فى الباب ثم يرتمى على السرير فى نوم طويل. استيقظ الشاعر عند الظهر وفرك عينيه ليتأكد أن ما يحدث حقيقى وأنه فعلاً فى لندن. أخذ حماماً سريعاً ثم اتصل بصديقه الموسيقار فى غرفته لكن التليفون لم يرد. عاود الاتصال مرات عديدة بلا فائدة، فنزل إلى اللوبى وتوجه لأحد الموظفين وسأله بإنجليزية كسيحة عن صديقه الملحن. قال الموظف: لقد رحل الشيخ منذ قليل ومعه الحاشية كلها.. رحلوا جميعاً إلى باريس. مادت الدنيا بالشاعر ووقف حائراً لا يدرى ماذا يفعل. كيف نسيه صديقه وانطلق مع الشيخ فى مغامرة جديدة؟، ألم يتذكر أنه أحضر معه أحداً؟.. لقد كان يعرف صاحبه ويعرف إهماله، لكن لم يتصور أن يأتى به من القاهرة ثم ينساه فى الفندق ويسافر!، نظر لنفسه فى جزع.. إنه الآن فى لندن بلا فلوس ولا أوراق ولا ملابس ولا أصدقاء، فماذا يفعل؟.. تهاوى على أحد المقاعد واجماً، ثم قام وأخذ يذرع ردهة الفندق جيئة وذهاباً وهو يفكر فى الموقف الرهيب الذى يتعين عليه مواجهته.. إنه حتى لا يتحدث الإنجليزية حتى يشرح حكايته لموظفى الفندق.. وحتى لو استطاع أن يحكى فماذا بمقدورهم أن يفعلوا من أجله؟.. لقد شعر فى هذا الوقت بالضياع كما لم يشعر به من قبل.
ظل على هذا الحال طوال اليوم ثم ترفقت به الأقدار عندما تعرف عليه بعض النزلاء المصريين بعد أن أخبرهم عن أغانيه التى كتبها لعفاف راضى ووردة ومنير وغيرهم.. حكى لهم ما حدث بالتفصيل فهدّأوا من روعه وأخذوه إلى القنصلية المصرية التى أعادته إلى مصر.
العجيب أنه بعد مرور أسبوع عندما مر عليه فى البنسيون صديقه الملحن بالسيارة فإنه نزل للقائه على الفور.. لم يعاتبه أو يراجعه، لكن فتح له أحضانه ثم ركب معه دون أن يسأله عن الوجهة!.