بقلم - أسامة غريب
اسمه مخالى، لكنه ليس يونانيًا كما يوحى الاسم، بل هو مصرى قبطى من الصعيد، وقد قدِم إلى القاهرة طفلًا بصحبة والده وعمل معه حمالًا بسوق الخضار. كان مخالى طموحًا فوضع القرش على القرش حتى نجح فى استئجار محل بالظاهر لبيع البقالة ثم سكن على مقربة من الدكان.
عرفتُ مخالى البقال منذ الصغر، وكان محله على ناصية شارعنا، ولكن معرفته جاءت مرتبطة بتحذير من الشراء منه أو التعامل معه!.. غريبة هذه المعرفة التى تأتى مصحوبة بعدم جواز الشراء من بقال معين. لم يكن المنع بسبب أنه أجنبى كما قد يوحى اسمه ولا بسبب أنه مسيحى، لكن حاجزًا آخر كان يقف بين سكان الحى ودكان مخالى. كانت المنطقة تحفل بالكثير من محال البقالة ولكلٍ رزقه بما فيهم مخالى نفسه الذى كان يتعرض لمقاطعة شرسة، وكانت قدرته فى التغلب على عزوف الناس عنه نابعة أساسًا من سبب المقاطعة!. لم يكن زبائن مخالى فى غالبيتهم يشترون الجبن والحلاوة، أو رابسو وتايد، كما لم يكونوا يبتاعون الأرز والمكرونة والسكر والشاى وإنما كان جل زبائنه من نوعية أخرى هم رجال الحى أصحاب المزاج الذين لا يطيب للرجل منهم أن يعود إلى بيته فى المساء قبل أن يعرج على دكان مخالى ليأخذ كأسًا أو اثنين مما يحويه برميل مخالى الشهير.
هذا هو السبب إذن فى هروب الناس من بقالة الأخ مخالى.. الرجل يبيع الخمر، ودكانه يحتضن السكارى الذين يسهرون ويصخبون داخل المحل الصغير إلى ما بعد أذان الفجر.. وكان تصريف البضاعة من جبن وخبز وصابون وسمن وخلافه يتم عن طريق زبائنه السكارى الذين كان يغريهم بروعة بضائعه فيقتنعون تحت تأثير السُّكر ثم يحملون البضاعة بعد نهاية السهرة، ويتوجهون لبيوتهم حيث يواجهون الزوجات الغاضبات بسبب الزوج السكران والبقالة الملعونة!. كان مألوفًا أن تجد امرأة تنزل بعد منتصف الليل وتقف على باب الدكان لتنادى زوجها حتى يخرج ويعود معها للبيت، أو أن ترسل الأم ابنها ليهمس فى أذن أبيه بأنّ: ماما تنتظرك فقم حالًا!، ولم يكن غريبًا أن تنشب مشاجرة بين الرجل وأهل بيته لأنه لا يريد أن يعود قبل أن يأخذ كأسًا أخيرة.
العجيب أن السكان كانوا يسمّون ما يبيعه الرجل فى البرميل «منقوع براطيش»، والأعجب أن الزبون كان إذا طلب براندى ملأ له كوبًا من البرميل، وإذا طلب «روم» ملأ له كوبًا من البرميل وإذا طلب «زبيب» ملأ له كوبًا من البرميل.. كان يعفيك من البرميل فقط فى حالة ما إذا طلبت زجاجة بيرة ستيلا!. فى المدرسة كانت تنشب المشاجرات بين التلاميذ لأن بعضهم يروى للفصل عن أب فلان زميلهم الذى حملوه بالأمس مُتعتعًا من دكان مخالى إلى البيت وهو فى حالة ضياع تام بحيث لم يقو على الذهاب للبيت بمفرده، أو يروى بعضهم عن خناقة نص الليل التى نشبت لأن أم فلان شتمت أبوه الذى ترك البيت بدون مصروف، وذهب ليسكر بالفلوس عند مخالى.. ونكمل غدًا.