بقلم: أسامة غريب
لا أدرى مدى دقة وصف شخص بأنه كائن ليلى ووصف آخر بأنه العكس، لكن فكرة أنّ هناك من الناس من يكونون فى أفضل أحوالهم فى الليل هى فكرة حقيقية، وقد عرفتُ فى حياتى بعضاً من هؤلاء الذين لا يطيقون الاستيقاظ المبكر ويحلمون بالنوم الممتد لساعات لا يحدها عمل ولا تقطعها التزامات أو مواعيد. عندما التحقت بالمدرسة للمرة الأولى فإن مدرستى الابتدائية بحى الظاهر كانت مسائية، وأعتقد أن اعتيادى الاستيقاظ المرحرح طوال السنوات الأولى من دراستى قد طبع حياتى بحب السهر فى غياب دافع يستحث الأهل على حملى على النوم المبكر مثل بقية الأطفال!. بدأت المشكلة مع المرحلة الإعدادية عندما اصطدمتُ بأن المدرسة ينبغى الاستيقاظ لها فى السادسة صباحاً.. كان الأمر أشبه بكابوس، وقد تعرضت وقتئذ لكل أنواع العقاب اللفظى والبدنى بسبب التأخر فى الوصول كل يوم تقريباً، كما كان لدينا بالمدرسة مدرس للألعاب ضخم الجثة، وكانت قسمات وجهه تنطق بالوحشية. اخترع هذا الرجل نوعاً جديداً من العقاب لمن يريد أن يتجنب الضرب وهو دفع قرش صاغ كاملاً بدلاً من تلقى لسْعَتين من عصاه الطويلة على اليد فى الشتاء القارس. كنت أضحّى بالقرش وأمنحه للمدرس الوغد، وكان هذا يزعم أنه من أجل معونة الشتاء التى تذهب للفقراء فى حين أننا لم نحصل أبداً على طوابع مقابل الفلوس، وكنا نعلم أن الأستاذ الفاضل يشترى بها «حشيش» دون أن يجرؤ الناظر على محاسبته!. فى المدرسة الثانوية كانت الأمور أسهل، لقد نضجنا وأصبحنا نضحك على الأيام التى كنا ندفع فيها نقوداً من أجل حضور اليوم الدراسى، وكنت عند الوصول متأخراً أتفادى الضرب والإهانة أو دفع الجزية بالتزويغ الطوعى والجلوس على القهوة طوال اليوم. فى الجامعة تجنبت دائماً المحاضرات الصباحية مهما كانت أهميتها، لكن بعد التخرج وبدء الحياة الوظيفية لم يكن هناك مفر من الانخراط فى دنيا البشر الذين يستيقظون فى الصباح ويسعون وراء الرزق. ظللت سنوات طويلة أفتح عينى بصعوبة مع صوت المنبه المزعج وأنا أسدد اللعنات للجميع: للشغل والمدير والزملاء وللحياة التى تضطرنى للقيام المبكر بينما أرغب فى أن أتمدد فى السرير وأنام براحتى. ظل حلم التقاعد يراودنى منذ أول يوم للوظيفة وكان هذا شديد الغرابة.. لم أكن أحلم بالصعود والترقى وتبوؤ المناصب لأنى أعلم أن هذا يأتى دائماً ومعه التزام صارم بمزيد من التبكير فى الاستيقاظ، لكنى كنت أرى النعيم كله فى حياة أستطيع فيها أن أصحو من النوم ظهراً دون أن يتأثر مستوى معيشتى.
يأتى الآن دور الإجابة عن سؤال يقول: هل بعدما حققتَ الحلم وهجرتَ الوظيفة وأصبحتَ تستيقظ وقتما تشاء.. هل حققت السعادة المنشودة؟..الإجابة: طبعاً حققت قدراً كبيراً منها.. هل ظننتمونى سأمارس الاستعباط وتمثيل فيلم هندى ألعن فيه الدنيا القاسية التى لا تريح أحداً؟.. لست أنا من يفعل ذلك!