بقلم -أسامة غريب
كنت زمان أحرص على أن أضع البريد الإلكترونى الخاص بى أسفل العمود الذى أكتبه حتى يسهل التواصل مع القراء، لكنى توقفت عن هذا الفعل ولم أعد أجد فيه ما كنت آمله من فائدة. معظم الرسائل لم تكن لها علاقة بما أكتب، وإنما كانت عبارة عن محاولات فى كتابة الرواية والقصة والمقال والقصيدة، ولم أكن أدرى لماذا يبعثون لى بمحاولاتهم، فلا أنا رئيس تحرير جريدة ولا أنا مسؤول بدار نشر. وعلى الرغم مما كنت أشعر به من امتنان نتيجة وثوق هؤلاء الشباب بى ورغبتهم فى نَيْل اعترافى، فإن هذه الثقة كانت تضعنى فى حرج حقيقى يعود إلى أمرين: الأول أننى لا أملك الوقت الذى أنفقه فى قراءة أعمال غير مضمونة النتائج، والثانى أن التجارب علمتنى أن أقل القليل مما يحمله لى البريد من محاولات فى الكتابة هو ما يصلح للنشر.
فى البداية كنت أصارح صاحب العمل برأيى الحقيقى دون النظر لأى اعتبارات، لكن هذه الصراحة تغيرت بمرور الوقت، ذلك أن الصدمة الشديدة التى كانت تعترى الشاب نتيجة قيامى بمنح عمله تقديرًا ضئيلًا كانت تفاجئنى وتجعلنى أجفل خوفًا على مستقبل الأدب والكتابة. كنت فى الحقيقة لا أندهش من المستوى الفنى الضعيف بقدر ما كنت أفزع من أن الحالمين بوضع أسمائهم بين كبار الأدباء والشعراء لا يجيد معظمهم القراءة والكتابة والإملاء، بمعنى أن مستواهم العلمى والثقافى يقف عند السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية، أما معارفهم التى حصّلوها فقد جمعوها من حياتهم الضيقة ومن برامج التليفزيون!. ومع هذا فإننى أعترف أن صدمة الشباب فيمَن يصارحهم بالحقيقة كثيرًا ما كانت تستند إلى أسباب موضوعية، ذلك أنهم يرون أعمالًا لا تفترق عما يكتبونه منشورة بالصحف والمجلات طول الوقت، لذلك فقد كانوا يتصورون أن مَن لجأوا إليه طلبًا للرأى إما لا يفهم العمل، أو يغار منهم ويخشى المنافسة!. ولعل الضحالة والخِفّة والاستسهال التى صارت طابع العصر تتحمل جانبًا من الذنب، بعدما تأثر جيل الشباب بالهراء الذى يقرأونه، واعتقدوا أن هذا هو المستوى الطبيعى للموهوبين!.
فى مرحلة تالية لم أعد أصارح أحدًا برأيى الحقيقى، وقد أدركت- بعدما عركنى الزمن- أن الحياة العابثة لا تحتمل الصرامة والجدية طول الوقت، ولا تستأهل أن نُغضب الناس بدعوى حرصنا عليهم، وفهمت أن الذى يطلب رأيك فى عمله لا يفعل ذلك لأجل أن تُنكد عليه وتُحرجه برأيك الحقيقى، وإنما يقدم عمله لك لأنه يحبك ويتعشم فيك ويحتاج منك أن تمنحه أملًا يُعينه على متاعب حياته.. يحتاج منك أن تُطيب خاطره بكلمات لن تُكلفك شيئًا، بينما تعنى له الكثير. إنى واثق أن أحدًا من هؤلاء لن يكون كاتبًا فى يوم من الأيام، لكنه لن ينسى لك ذوقك ورقتك وحُسن صنيعك.
على أى الأحوال، لقد تجاوزت هذه المرحلة أيضًا، وقمت بإخفاء البريد الإلكترونى لأن التسامح والمثالية المفرطة وإبداء عكس ما أشعر أصبحت تضايقنى، وقد كنت أتمنى لو كان لى صدر واسع مقاس إكس لارج!.