تشويه التاريخ

تشويه التاريخ

تشويه التاريخ

 صوت الإمارات -

تشويه التاريخ

كريمة كمال
بقلم: كريمة كمال

كتب معمارى أردنى يقول: «تميز المصريون على مدى تاريخهم الأزلى باحترام الموتى، وبنوا لهم المدافن العظيمة والأهرامات والأضرحة، التى شهدت لهم حرصهم على تخليد الموت واحترام ذكرى موتاهم وقدسية رفاتهم.. عرفت القاهرة، منذ ثمانينيات القرن الماضى، وزُرْتُها مرارًا وتكرارًا، وأحببت عمارتها التراثية بكافة أنماطها وعصورها، وبخاصة العمارة المملوكية، التى أعتبرها من أجمل وأرقى أنماط العمارة التراثية التى بناها المسلمون، بل وربما التى بناها الإنسان فى كل مكان، وكنت فى زياراتى المتكررة أمر على جبّانة المماليك، التى تحوى بعضًا من أعظم ما بنى المماليك، فصوّرت ورسمت ووثّقت بعضها ودرستها، وكان لذلك أكبر الأثر فى تكوينى المعمارى وتوجهاتى فى التصميم»، وأكمل يقول: «لم أكن أتخيل أبدًا أن يأتى اليوم الذى أشهد فيه إزالة عشرات المدافن بالبلدوزر وطحن أو إزالة رفات ساكنيها أمام أعين أحفادهم وتشويه منطقة ظلت محتفظة بهويتها ووحدتها العمرانية والمعمارية لمئات السنين وشكّلت مصدر فخر وإلهام لمُحِبِّى عمارة المماليك والحقبات التى تبعتها حتى زمن قريب ولعشاق تراثها المعمارى العريق ليس فى مصر وحدها، وإنما فى العالم أجمع، وكل ذلك من أجل إنشاء جسر مرورى كان بالإمكان إيجاد حلول بديلة له لا تقطع الهوية البصرية للمنطقة ولا تدمر وحدتها ولا تهين كرامة قاطنيها».

هكذا كان يرى هذا المعمارى الأردنى منطقة مقابر المماليك، وهكذا رأى ما فعله البلدوزر بها.. أما على أرض الواقع، فقد تعالت الاستغاثات من وطأة البلدوزر على المقابر، فقد كتب أحدهم يقول: «تربة جدنا، الشريف خلوصى باشا، اتهدّت النهارده على كل الأموات اللى فيها، علشان محور الفردوس.. إزاى نعمل كده فى أجدادنا؟!.. مدفن الأميرة نازلى هانم حليم، حفيدة محمد على باشا، تم هدم سور المدفن بالفعل، وفى انتظار الهدم، لوماكانش المشهد البديع ده تاريخ وتراث يبقى إيه اللى تراث؟!». هذه المقابر تضم رفات عظماء مصر، ناهيك عن التراث المعمارى لها، فهى تضم رفات حسن صبرى، رئيس وزراء مصر، وعبود باشا وأحمد لطفى السيد وغيرهم كثيرين.. هى تاريخ وتراث لا يمكن إنكاره أو التقليل من أهميته، وهذه المقابر تضمها قائمة اليونسكو، أى أنها مُصنَّفة عالميًا كآثار، وقد سبق للتنسيق الحضارى أن رفض إقامة محور الفردوس حرصًا على منطقة جبّانة المماليك، فما الذى حدث الآن جعل الصوت الأعلى للبلدوزر وحده يدمر فى طريقه كل شىء؟!

تحرك البلدوزر ليطول فى طريقه أحواش الأسر الأرستقراطية والبرجوازية من أعيان القطر المصرى.. جرَت الإزالات بسرعة أذهلت الجميع، حيث أغارت البلدوزرات على شارع قنصوة، المؤدى إلى ضريح السلطان قنصوة أبوسعيد، أحد أواخر سلاطين المماليك، فهدمت أجزاء من أجمل نماذج العمارة الجنائزية الحديثة، وساوت البعض الآخر بالأرض.. تعالت صرخات الأحفاد على مواقع التواصل الاجتماعى، والبلدوزر يأخذ فى طريقه جزءًا عزيزًا من تاريخ مصر، واكتشف الناس ضياع ثروة معمارية فريدة، ومحو ذاكرة شخصيات عظيمة كتبت اسمها بحروف من نور فى تاريخ مصر.

ما جرى فعلًا على الأرض من تشويه لتراث حضارى وإزالة لجزء من أجزاء تاريخ مصر وإزالة لمنطقة تشكل ملمحًا من تاريخ معمارى، فلا تعود موجودة بعد.

هذا فى النهاية تشويه لمنطقة ظلت محتفظة بتجانسها العمرانى والمعمارى لأكثر من مائة عام، وهى جزء لا يتجزأ من التجمع الجنائزى الهائل الواقع شرق القاهرة، والذى يُعرف بـ«صحراء المماليك»، ويحتوى على مجموعات جنائزية فريدة لسلاطين وأمراء المماليك وأسرهم.. كل ذلك يقضى عليه البلدوزر ليمحوه عن الأرض.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تشويه التاريخ تشويه التاريخ



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات
 صوت الإمارات - بلينكن يطلب من إسرائيل السماح باستئناف التلقيح لأطفال غزة

GMT 20:59 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس

GMT 20:58 2018 الإثنين ,03 كانون الأول / ديسمبر

شرطة نيويورك تبحث عن رجل أضاع خاتم الخطوبة

GMT 09:44 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد بن سعيد يدشن " فندق ألوفت دبي ساوث " فى الامارات

GMT 23:20 2017 الجمعة ,22 كانون الأول / ديسمبر

محمد الشامسي جاهز للمشاركة مع الإمارات أمام عمان

GMT 01:40 2016 الجمعة ,14 تشرين الأول / أكتوبر

حمود سلطان يطالب برحيل المدرب الاماراتي مهدي علي

GMT 10:48 2021 الإثنين ,06 أيلول / سبتمبر

الطاولات الجانبية في الديكور لتزيين غرفة الجلوس

GMT 19:49 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

سيفاس سبور يكتسح قيصري سبور برباعية في الدوري التركي

GMT 00:03 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحالف معظم الكواكب لدعمك ومساعدتك في هذا الشهر

GMT 08:50 2019 الجمعة ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

شباب الأهلي يقهر عجمان بثلاثية في الدوري الإماراتي

GMT 00:38 2019 الخميس ,31 كانون الثاني / يناير

شباب الأهلي يرغب في التعاقد مع الإكوادوري كازاريس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates