عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم
آخر تحديث 17:58:31 بتوقيت أبوظبي
الثلاثاء 15 تموز / يوليو 2025
 صوت الإمارات -
أخر الأخبار

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

 صوت الإمارات -

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم

جلال أمين
بقلم: جلال أمين

فى إحدى مسرحيات برناردشو، الكاتب الأيرلندى الشهير، يدور حوار بين رأسمالى كبير وبالغ الثراء، وبين شاب يسارى فقير وشديد الحماس. لا يكف الشاب عن التنديد بذلك النظام الذى يسمح بأن يوجد الفقر المدقع إلى جانب الثراء الفاحش، بينما يدافع الرأسمالى عن هذا النظام الذى مكّنه من تحقيق كل هذه الثروة. أثناء الحوار يقول الرأسمالى للشاب اليسارى: «هل تعرف ما هو الفرق الحقيقى بينى وبينك؟ إن كلا منا يكره الفقر كرها شديدا لا يطيقه، ولكن بينما تقول أنت لنفسك عندما تصادف شخصا فقيرا «إننى لا يمكن أن أسمح قط بأن يستمر مثل هذا الشخص على هذه الحال من الفقر»، أقول أنا لنفسى إذا رأيت نفس الشخص: «إنى لن أسمح قط بأن أصبح أنا، فى أى يوم من الأيام، على هذه الدرجة من الفقر!».

وقد عرفت فى حياتى من المثقفين المصريين من ينتمى إلى كلا النوعين من الناس. كثير من المثقفين المصريين عانوا من شظف العيش فى بداية حياتهم، فلم تكن فترة صباهم، وربما شبابهم أيضا، فترة سهلة على الإطلاق، فكرهوا الفقر بالطبع، ولكن قضية الفقر ظلت فى نظرهم قضية شخصية، فقضوا بقية حياتهم فى محاولة لتجنب الوقوع فى الفقر من جديد، وقد دفع هذا الخوف الكثيرين منهم إلى مداهنة الممسكين بالسلطة والتقرب من الحكام، الذين يمكن لهم أن يجنبوهم هذا الفقر إلى الأبد.

ولكن هناك أيضا النوع الآخر، أى الذين ذاقوا شظف العيش أيضا فكرهوا الفقر بدورهم، ولكن الفقر فى نظرهم أصبح قضية عامة، فكرسوا بقية حياتهم لمحاولة تخليص المجتمع كله منه. من هذا النوع الثانى من الكتاب المصريين، أحمد فؤاد نجم، ذلك الشاعر الرائع الذى ذاق فى طفولته وصباه طعم الفقر والتشرد، فلم يدفعه ذلك قط إلى بذل ماء الوجه فى تملق أصحاب السلطة، بل ظل طوال حياته يتحداهم، ويندد بالظالمين منهم، ولا يمتدح منهم إلا من وقف إلى جانب الفقراء، بل وبقدر وقوفه إلى جانب الفقراء، لا أكثر ولا أقل. لم يكن من المنتظر بالطبع أن يجلب له كفاحه أى مكاسب مادية، بل على العكس، قضى جزءا كبيرا من حياته فى السجون، وعلى تتابع الحكام واختلاف مشاربهم. ولكن المدهش أنه عندما نجح فى تحقيق بعض الدخل من شعره وكتاباته، لم يفكر قط فى تغيير نمط حياته، لا فى الظاهر ولا فى الباطن، فاستمر يرتدى نفس النوع من الثياب، ويسكن نفس المسكن، إذ لم يكن تغيير نمط الحياة جزءا من طموحاته.

•••

كنت إذا نظرت إليه، أو تأملت صوره المنشورة فى الصحف أو على أغلفة كتبه، أرى على وجهه آثار ما مر به فى حياته من تجارب ومحن، ولكن لم أر أبدا، لا على وجهه ولا فى سلوكه، أى محاولة للظهور بغير حقيقته (على عكس ما تلاحظ على كثيرين من المثقفين). لم يكن يعطيك أبدا الانطباع بأنه يأخذ نفسه مأخذ الجد (ناهيك عن أخذ كثيرين غيره مآخذ الجد مهما كان مقامهم فى السلطة أو الثروة). انه لا يبخل عليك بعبارة مجاملة، ولكنه لا ينتظر منك أن تبالغ أنت أيضا فى أهميتها، وإلا فما أسرع ما يمكن أن تتعرض له من سخريته.

فى قصيدته الجميلة فى ذكرى جمال عبدالناصر (والمنشورة تحت عنوان «الزيارة») فاجأنا نجم بالكلام عن نفسه وعن أبيه فقال: «أبويا كان فلاح تعيس ــ فى ليلة ضلمة خلّفوه ــ وفى خرقة سودا لفلفوه ــ وفى عيشة غبرا طلّعوه ــ أبويا طلّعتوه حمار ــ ولا مين ما جاش ولا فين ماراحش...».

هكذا يصف نشأته، ولكنه يترك لنا أن نخمن كيف يمكن أن يتحول هذا «الجحش» إلى واحد من أعظم شعراء العامية فى مصر وأكثرهم شعبية. إنى لا أشك فى أن هذه النشأة، عندما اقترنت بموهبة عظيمة، لها علاقة وثيقة بما طرأ عليه فى مجرى حياته، بما فى ذلك صفة أخرى من صفاته التى تميزه عن كثيرين غيره من الشعراء، وهى استحالة إصابته بالاكتئاب.

لقد سمعنا عن إصابة بعض الشعراء المصريين المشهورين بفترات طويلة من الاكتئاب (سمعت ذلك عن بيرم التونسى وصلاح جاهين وصلاح عبدالصبور) ولكن لم أسمعه عن أحمد فؤاد نجم. لقد مر كما نعرف بالكثير من المحن، ليس أقلها الفقر الشديد والسجن، ولكنى أتخيله دائما وهو يقابل هذه المحن بالصبر والسخرية، وكأن الدخول فى حالة اكتئاب من قبيل الترف الذى لا تسمح به ظروفه. كان يبدو لى رجلا يتحلى بقدر عال من الحكمة التى اكتسبها بتسليط ذكائه الوافر على أحداث حياته المدهشة، وجعلته مستعدا لقبول أى شىء دون إسراف فى الغضب، ويتوقع أى شىء من أى شخص. كان ينطبق عليه ما يطلق على الفقراء المعدمين أحيانا من أنه (لم يكن لديه ما يفقده)، ولكنه استمر يشعر بذلك حتى بعد أن غادر فصيلة الفقراء المعدمين. نعم كان لديه ثلاث بنات عزيزات جدا على قلبه. وقد صدر سيرته الذاتية (الجميلة أيضا، والتى تحمل عنوان الفاجومى) بهذا الإهداء البليغ للبنات الثلاث: «يمكن ما تلاقوش فى حياة أبوكم شىء تتعاجبوا به، لكن أكيد مش حاتلاقوا فى حياة أبوكم شىء تخجلوا منه. ده اعتقادى اللى دافعت عنه، ودفعت ثمنه بمنتهى الرضا».

ولكنه كان من الحكمة، فيما أظن، بحيث كان يدرك دائما استحالة الاحتفاظ بهن إلى الأبد. لقد كتبت ابنته نوّارة مقالا جميلا جدا فى رثائه بعنوان «بابا» (الأهرام ــ 23 مايو 2014)، ومن هذا المقال، وكذلك مما سمعناه عن ظروف وفاته، نعرف أنه ترك الحياة بسرعة ودون إنذار، ودون أن يشغل الناس من حوله بطلب الإسعاف أو العلاج العاجل (ناهيك عن العلاج على نفقة الدولة).

تروى نوارة فى مقالها أنه فى مرض سابق اصطحبته زوجته (أم زينب) إلى العناية المركزة، فأصر على التدخين فيها، فلما امتنعت زوجته عن تسليم السيجارة له، قال لها «أنت طالق». ذكرت الزوجة ما حدث للطبيب وقالت له انه «رمى على يمين يا دكتور». فأجابها الطبيب «وده يجوز له أيمانات؟ واحد بيدخن فى العناية المركزة، ويعاكس الممرضات، كل واحدة فيهم تخرج فطسانة على روحها من الضحك.. المفروض ان ده طبيعى؟».

•••

من الملفت للنظر أيضا انه توفى قبل أيام قليلة من حضوره الاحتفال الذى كان يزمع حضوره لاستلام جائزة رفيعة، ليس من الحكومة المصرية بالطبع (التى تأجل تكريمها له إلى ما بعد أن اطمأنت إلى وفاته)، ولا من أمير عربى، ولكن من أمير هولندى قرر أن يخصص جائزة لشعراء أو كتاب موهوبين، من أى بلد فى العالم، تركوا أثرا كبيرا فى حياة شعوبهم، وحازوا شعبية واسعة، وقد قيل بحق إن أحمد فؤاد نجم، رغم أنه لم يحصل على جائزة واحدة من حكومة بلده، فانه حصل على جائزة أعظم وهى محبة المصريين له. ومع ذلك فإنى أعتقد أن الجائزة الأعظم حتى من هذا الحب، والتى حصل عليها أحمد فؤاد نجم بلا أدنى شك، كانت هى رضاه المستمر عن نفسه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم عن ظاهرة أحمد فؤاد نجم



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

النجمات العرب يتألقن بإطلالات أنيقة توحّدت تحت راية الأسود الكلاسيكي

القاهرة ـ صوت الإمارات
اجتمعت عاشقات الموضة الشهيرات في الوطن العربي خلال الساعات والأيام الماضية على تفضيل اللون الأسود لتزيين أحدث ظهور لهن، حيث تكاثفت إطلالات النجمات المتألقات بالأزياء السوداء، وزينت مواقع التواصل الإجتماعي، وطغت على اختياراتهن الأناقة والتفاصيل المعاصرة، كما تنوعت تلك الأزياء بين ما يناسب النزهات الصباحية، وأخرى للسهرات، ولأنه اللون المفضل في كل المواسم دعينا نلقي نظرة على أحدث إطلالات النجمات، لعلها تلهمك لاختيار إطلالتك القادمة على طريقة واحدة منهن. إطلالة نانسي عجرم ملكة البوب العربي نانسي عجرم عادت لصيحتها المفضلة في أحدث ظهور لها، من خلال اختيار موضة الجمبسوت المرصع الذي تفضله كثيرا في حفلاتها، ولم تتخل الفنانة اللبنانية عن لونها المفضل الذي رافقتها مؤخرا بكثير وهو اللون الأسود، حيث اختارت جمبسوت مرصع كليا بالت...المزيد

GMT 12:14 2020 الإثنين ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج الثور الأثنين 30 تشرين الثاني / نوفمبر2020

GMT 19:48 2020 الخميس ,20 شباط / فبراير

هل لصقات التنحيف وسيلة فعّالة لخسارة الوزن؟

GMT 06:36 2019 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

يونايتد يحقق فوزه الأول منذ أكثر من شهر في البريميرليج

GMT 06:58 2014 الأربعاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

"الفن عبر الأبواب الخلفية " المعرض الأول لعائشة الكعبي

GMT 05:51 2014 السبت ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

إل جي تكشف عن الشاشة ذات الإطار الأضيق في العالم

GMT 07:57 2018 الجمعة ,20 إبريل / نيسان

وزير الخارجية البريطانية يلتقى رئيس أوغندا

GMT 13:57 2013 الأحد ,27 تشرين الأول / أكتوبر

شريف شحادة يختار بلجيكا ملجًا له هربًا من القتل

GMT 01:11 2014 الجمعة ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

"إيكو" تستقبل الشتاء بمجموعة مميزة من أحذية Terrain

GMT 20:11 2013 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

تراجع ترتيب الجامعات خارج مدينة لندن في التصنيف العالمي

GMT 13:04 2014 الثلاثاء ,22 إبريل / نيسان

كشف سرطان الثدي المبكر ينقذ 90% من الحالات

GMT 01:20 2020 الإثنين ,14 كانون الأول / ديسمبر

كالياري يتقدم بهدف على إنتر ميلان في الشوط الأول
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
Pearl Bldg.4th floor
4931 Pierre Gemayel Chorniche,Achrafieh
Beirut- Lebanon.
emirates , Emirates , Emirates