فى مطلع هذا العام ظهر كتاب فى فرنسا، أحدث ضجة كبرى فى فرنسا وخارجها، وأصبح على الفور، ولايزال، من أكثر الكتب مبيعاً، ولا يزال النقاش حوله مستمراً، إذ رحب به كثيرون من اليمين واليسار، وهاجمه كثيرون، من اليمين واليسار أيضاً.
الكتاب هو «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» والمؤلف أستاذ للاقتصاد السياسى فى فرنسا، هو توماس بيكيتى «t.piketty»، وفكرته الأساسية هى أن توزيع الدخل والثروة فى العالم «طبقاً للبيانات المتاحة عن أكثر من 20 دولة» يميل نحو مزيد من اللامساواة طوال فترة تزيد على القرنين «باستثناء فترة قصيرة لا تزيد على أربعين عاماً هى فترة الثلاثينيات وتدخل الدولة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية».
كنت قد كتبت ثلاث مقالات عن الكتاب «نشرت فى شهر يونيو الماضى فى جريدة الأهرام»، عرضت فيها أفكاره الأساسية ووجه أهميتها، وأسباب ما تعرض له من تقريظ وهجوم من اليمين واليسار، ولكنى أحب الآن أن أضيف فكرة أعتقد أنها مهمة، وتتعلق بكون ظهور مثل هذا الكتاب الآن، وما أثاره من ضجة، يمثل فى ذاته ظاهرة تستلفت النظر وتستحق التأمل، إذ بدا لى أن الاهتمام بموضوع المساواة أو اللامساواة فى توزيع الدخل والثروة، يمر بدورات من الصعود والهبوط، فيزداد القلق من زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فى مرحلة تاريخية معينة، ويكثر فيها الكلام عن الظلم الاجتماعى وضرورة مواجهته، ثم تأتى فترة تاريخية أخرى يحدث فيها العكس بالضبط، فيقل الاهتمام بموضوع العدالة الاجتماعية فإذا أثار البعض الموضوع وأبدوا قلقهم بشأنه، قوبل ذلك بالإعراض من الرأى السائد فى تلك الفترة، بل قد يتعرض من يثير الموضوع للاستهزاء والسخرية، وذلك حتى تأتى فترة أخرى جديدة يعود فيها الاهتمام بالعدالة والمساواة، وينزوى المدافعون عن التفاوت فى الدخول، ويخفت صوتهم بينما يعلو صوت الداعين إلى التدخل لصالح الفقراء، وهكذا.
عندما استعدت فى ذهنى تطور الفكر الرأسمالى والفكر الاشتراكى خلال المائتى عام الماضية، وجدت فيه ما يؤيد هذه الفكرة، أى تتابع دورات العدالة الاجتماعية والظلم على هذا النحو، وحاولت أن أكتشف ما يمكن أن يكون سبب هذا الصعود والهبوط، ثم الصعود والهبوط من جديد، فتوصلت إلى النتيجة التى سأقوم الآن بشرحها.
يمكن أن نعتبر بداية الفكر الاشتراكى، بالمعنى المعروف الآن، هى فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر، أى منذ أكثر قليلاً من قرنين كان قادة هذا الفكر «مثل فورييه فى فرنسا وأوين فى إنجلترا وسيسموندى فى سويسرا» ينددون بما كان سائداً فى أوروبا من تفاوت فى الدخول والثروات، وبما يتعرض له العمال من استغلال من جانب أرباب العمل. ولكن أوروبا كانت تمر فى ذلك الوقت بما عرف بالثورة الصناعية، حيث كان يحدث فى كل يوم تجديد لأساليب الإنتاج وتطبيق لاختراع حديث بعد آخر فى الصناعة، مما ترتب عليه زيادة كبيرة فى ثروة المجتمع ككل، حتى وإن لم يكن للعمال نصيب أو شأن فى هذه الزيادة.
كان الكتاب المدافعون عن النظام الرأسمالى وحرية السوق وحقوق الملكية الفردية، يعبرون عن الرأى السائد حينئذ، ولم يظهروا مبالاة كبيرة بما يقول الاشتراكيون، ولا اعتبروهم يمثلون خطراً يخشى منه، إذ اعتبروا أن الرأسماليين وأرباب الأعمال يقومون بخدمة عظيمة فى تحقيق التقدم الاقتصادى والتكنولوجى مما يسمح بتجاهل أى دعوة للتقييد من حريتهم.
جاءت بعد ذلك فترة فى منتصف القرن التاسع عشر «ولنقل الفترة الواقعة بالتقريب بين 1840 و1860»، نشط فيها الفكر الاشتراكى بشدة، وجذب إليه عدداً كبيراً من الأنصار من العمال والمثقفين المناصرين لهم، وكان أبرز دعاة الاشتراكية فى ذلك الوقت هو كارل ماركس. ولكن هذه الفترة شهدت أيضاً تراخياً فى معدل التقدم التكنولوجى والاقتصادى، مما أضعف حجج المدافعين عن الرأسمالية، إذ بدا وكأن النظام الرأسمالى لا يقوم حينئذ لا بتحقيق العدالة ولا بالتنمية السريعة لثروة المجتمع ككل. وهكذا شهدنا مرحلة صعود للفكر الداعى للعدالة الاجتماعية، والمندد بالظلم الاجتماعى.
ولكن الدورة عادة فتكررت من جديد، ففى الفترة التالية، التى يطلق عليها أحياناً وصف «الثورة الصناعية الثانية» والتى شهدت استخدام الطاقة الكهربائية وجهاز الاحتراق الداخلى «الذى سمح بظهور السيارة» وهى أيضاً الفترة التى شهدت زيادة الرخاء فى الدول الأوروبية الاستعمارية نتيجة استغلالها لمستعمراتها فى أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية «ويؤرخ لها بالتقريب بالفترة الواقعة بين 1880 وبداية الحرب العالمية الأولى فى 1914».
فى هذه الفترة عاد النفوذ من جديد لأنصار الرأسمالية لبعض الوقت، وأصاب الضعف الأفكار الاشتراكية، إذ يبدو، من جديد أن نجاح الرأسمالية فى ميدان التقدم التكنولوجى وزيادة الثروة الإجمالية قادر على أن يغفر لها فشلها فى ميدان العدالة الاجتماعية.
ولكن قدوم الأزمة الاقتصادية فى الثلاثينيات من القرن العشرين، وانتشار ما عرف بالكساد الكبير، وشيوع البطالة، فى دولة رأسمالية بعد أخرى، قوى من الدعوة إلى الاشتراكية مرة أخرى، ولم يستطع الرأسماليون مقاومة الاتجاه نحو مزيد من تدخل الدولة لصالح الفقراء، سواء على يد سياسى كبير مثل الرئيس الأمريكى روزفلت، أو على يد مفكر اقتصادى كبير مثل مينارد كينز فى إنجلترا.
يبدو أن الدورة قد تكررت مرة أخرى فى الربع الأخير من القرن العشرين. فمع حلول التقدم التكنولوجى الكبير المعروف بثورة المعلومات والاتصالات، مما ترتب عليه تسارع معدل العولمة، بدا وكأن الرأسمالية قادرة مرة أخرى على تحقيق طفرة جديدة فى الإنتاج والثروة، وقد سمح هذا لأنصار الرأسمالية مثل مارجريت تاتشر، رئيسة الوزراء فى بريطانيا، والرئيس الأمريكى ريجان، بأن يتجاهلوا أو يستهينوا بمطالب النقابات العمالية وشكاوى من لم يحققوا نفعاً يذكر من هذه الزيادة الكبير فى الثروة.
ولكن هذا التجاهل وهذه الاستهانة بمحدودى الدخل لم يكن من الممكن أن يستمرا إلى الأبد «كما هى العادة» فإذا بالأزمة المالية والاقتصادية التى بدأت فى 2008، ولاتزال مستمرة حتى الآن، تعيد النشاط والقوة إلى المنادين بمزيد من المساواة ومزيد من مراعاة اعتبارات العدالة الاجتماعية وفى هذا المناخ ظهر كتاب توماس بيكيتى «رأس المال فى القرن الواحد والعشرين» فلا عجب أن حظى بهذا القدر الكبير من النجاح والانتشار، ولابد أن نتوقع نجاحاً مماثلاً فى المستقبل القريب لكتب مماثلة.