بقلم: جلال أمين
كل منا يقرأ الصحف بطريقته. البعض يبدأ بالصفحة الأولى، ويقرأ بالترتيب حتى آخر صفحة. والبعض الآخر يبدأ «مثلى» بالعناوين الكبيرة فقط، المنشورة فى الصفحة الأولى، ثم يقلب الجريدة كلها ويأخذ فى القراءة بالعكس ابتداء من الصفحة الأخيرة؛ تجنباً فيما أظن لما تثيره الصفحة الأولى فى النفس، عادة، من إحباط وتوتر أعصاب.
على أى حال، سوف أعرض على حضراتكم طريقتى فى قراءة الصحف التى توصلت إليها بعد خبرة طويلة، واقتنعت بأنها أفضل الطرق، خاصة فى ضوء أحوالنا الراهنة، ونوع الأخبار التى تنهال علينا فى السنوات الأخيرة من كل صوب.
لا يمكن فى رأيى الاستغناء عن الحصول على جريدة يومية حكومية لا لمعرفة ما يحدث بالفعل فى العالم، أو حتى فى مصر، ولكن لمعرفة رأى الحكومة فيما يحدث، وبالمقارنة بين ما تنشره الجرائد الحكومية والجرائد المستقلة «نسبياً» تستطيع أن تكتشف أيضاً ما هى الأخبار التى تحرص الحكومة على إخفائها. صحيح أن هذا وذاك قد يؤدى إلى الاستغراق فى عمليات معقدة من التخمين، وترجيح بعض الظنون على غيرها، مما قد لا يؤدى بك إلى أى نتيجة قاطعة، ولكنى اعتدت مع الوقت قبول الفكرة الآتية، وهى أن الغرض الحقيقى من قراءة الصحف ليس زيادة المعرفة بما يحدث فى العالم بل مجرد تمكينك من الاشتراك فى الحديث مع الناس، فى المناسبات الاجتماعية المختلفة، فتدلى بدلوك بما تظن أنه قد حدث.
ربما كان هذا هو السبب فى أن المسؤولين عن إصدار الصحف المصرية «وكذلك وسائل الإعلام الأخرى» قرروا زيادة المساحة المخصصة للمقالات والتعليقات «والمحاورات التليفزيونية» إذ ما دام حجم المسموح بمعرفته يتضاءل مع مرور الزمن، فلا بأس من التركيز على التعليق على ما نظن أننا نعرفه. إن قارئ الصحف المصرية «حكومية أو غير حكومية» لابد أن يستغرب بشدة من هذا الكم الهائل مما تنشره من مقالات بالمقارنة بالصحف الأوروبية أو الأمريكية، وكذلك من الاختلاف الشديد بين موضوعات المقالات المنشورة جنباً إلى جنب فى الصفحة نفسها. فمقالة فى التاريخ تنشر إلى جانب مقالة فى النقد الأدبى، إلى جانب ذكريات شخصية بحتة، إلى جانب مقال فى مهاجمة وزير الثقافة... إلخ، مما لابد أن يصيب القارئ بالدوار أو عسر الهضم، إذا أقدم بالفعل على قراءتها الواحدة بعد الأخرى، مما تعلمت بالخبرة الطويلة أن أتجنبه كما سأشرح للقارئ الآن.
إن كتاب المقالات الصحفية أشكال وألوان، ويجب على القارئ أن يتعامل مع كل منهم بالطريقة التى يستحقها. هناك مثلاً من الكتاب «وهم كثيرون لحسن الحظ» من لا تحتاج معهم إلى قراءة أكثر من أسمائهم الموضوعة على رأس المقال، مما يترك لك الوقت الكافى للقراءة لغيرهم. بعض هؤلاء لديه دائماً غرض شخصى يريد تحقيقه من كتابة المقال، كالتقرب من شخصية مهمة، أو إيهام القارئ بأنه «أى الكاتب» يتمتع بصفات خارجة عن المألوف، إما فى اتساع الثقافة أو فى حظه من الشهرة أو فى قوة علاقته بالممسكين بالسلطة... إلخ، دون أن يكون هناك أى مبرر حقيقى لهذا الزهو.
هناك نوع آخر يتمتع بالفعل «بعكس النوع السابق» ببعض الموهبة وباتساع المعرفة فى فرع تخصصه، ويجد من الصعب أن يكتب مقالاً لمجرد النفاق أو لمدح نفسه بما ليس فيها، ولكنه للأسف خائف على الدوام من أن يمس بطرف لأى صاحب سلطة من قريب أو بعيد، ومن ثم يختار موضوعاته مما لا علاقة له بما يجرى من أحداث أو بما يشغل الناس فيتجنب موضوعات مثل قانون التظاهر مثلاً أو كثرة عدد المعتقلين السياسيين، ويكتب عن مشكلة من مشاكل الشعر الجاهلى.
هناك كتاب آخرون أنصح أيضاً بتجاهل مقالاتهم لأسباب أخرى؛ فبعضهم يعشق الجمل المعقدة والطويلة؛ بحيث يصعب جداً، متى بدأت الجملة أن تحدد متى تنتهى بالضبط؛ إذ تبين له «فيما يبدو» أن هذا التعقيد يحقق أكثر من هدف، فضلاً عن عدم إغضاب المسؤولين «الذين سيعجزون حتماً عن فهمه»، سوف يوحى للقارئ بأنه كاتب عميق الفكر وواسع الثقافة، وإلا ما استطاع أن يكتب بهذه الدرجة من الصعوبة والتعقيد. فإذا اختار بالإضافة إلى ذلك عنواناً يوحى بالوطنية والحرص على المصلحة العامة «كتعميق الديمقراطية مثلاً أو احترام حقوق الإنسان» استطاع أن يضرب أكثر من عصفور بحجر، وقد ثبت لدىَّ أن وسائل الإعلام كلها تحب جداً هذا النوع من المعلقين والكتاب، فهو بالإضافة إلى أنه لا يسبب مشاكل من الناحية الأمنية، نوع جاهز دائماً للكتابة أو للاشتراك فى أى مناقشة، «بالنظر إلى أنه لا يقوم فى الحقيقة بأى جهد يذكر» ومع تكرار ظهور اسم هذا النوع من الأشخاص فى وسائل الإعلام، تتكون له شهرة «دون أن تستطيع أن تحدد ما هو مشهور به بالضبط» وهذه الشهرة تطلبها دائماً وسائل الإعلام، إذ إن المشهور «سواء لسبب أو غير سبب» يزيد عدد المقبلين على الجريدة أو القناة التليفزيونية.
ليس كل الكتاب بالطبع من هذا النوع أو ذاك، فهناك عدد من الكتاب الممتازين الذين يجب أن تحرص على قراءة كل ما يكتبون، بل أن تقرأ ما يكتبون كلمة بكلمة، وإن كانوا بالضرورة قليلى العدد. إنهم لا يكتبون لتحقيق مصلحة شخصية، وهم حساسون بشدة لما يشغل الناس، ويذهبون مباشرة إلى ما يريدون قوله دون تعقيد أو تقعر. المشكلة الوحيدة مع هؤلاء هى أنهم «بعكس الأنواع الأخرى» كثيراً ما يصيبهم الإحباط بسب اهتمامهم الحقيقى بأحوال الوطن، مما يدفعهم أحياناً إلى التحول من الموضوعات المحزنة إلى موضوعات إنسانية عامة، مما قد يهم القارئ الأوروبى أو الأمريكى بقدر ما يهم القارئ المصرى. ولا عيب فى هذا المسلك فى حد ذاته، خاصة أن هؤلاء لديهم من الموهبة والقدرة على التعبير المؤثر عما يدور فى أذهانهم، بل إن قراءة ما يكتبه هؤلاء فى هذه الأحوال يشعرك بأنك لست وحدك فيما تشعر به من إحباط، لهذا لا أنصح القارئ بالتوقف، تحت أى ظرف من الظروف، عن القراءة لمثل هؤلاء الكتاب، وإن كنت لا أستطيع أن أعده بأنه سيحصل دائماً على ما يبهجه.
لقد أنفقت وقتاً طويلاًَ فى الكلام عن المقالات، مع أن هناك طبعاً أشياء أخرى فى صحفنا، كصفحات الجرائم والوفيات، فضلاً عما تنشره الصحف من صور، لدى أيضاً بعض النصائح عن الطريقة المثلى لتأملها، ولكن هذا يحتاج إلى مقال آخر.