نجيب محفوظ أو كيف تصبح أديباً عالمياً

نجيب محفوظ.. أو كيف تصبح أديباً عالمياً؟

نجيب محفوظ.. أو كيف تصبح أديباً عالمياً؟

 صوت الإمارات -

نجيب محفوظ أو كيف تصبح أديباً عالمياً

جلال أمين
بقلم: جلال أمين

 أظن أن الشرط الأساسى للنجاح فى أن تصبح أديباً عالمياً هو ألا يشغل هذا الأمر بالك على الإطلاق. الشرط هو أن ينصرف همك إلى الكتابة بصرف النظر عما إذا كان موضوع الكتابة محلياً أم عالمياً. فإذا كنت، بالإضافة إلى ذلك، شخصاً موهوباً، فقد يضمن هذا لك اعتراف العالم كله بك. يرد إلى ذهنى بهذا الشأن مثلان على طرفى نقيض لمخرجين سينمائيين معروفين، أحدهما هندى والآخر مصرى. كان كل منهما من النوع الذى يلتصق الفيلم كله باسمه، فهو- بالإضافة إلى الإخراج- قد يكتب أيضاً قصة الفيلم، والسيناريو والحوار، بل قد يؤلف أيضاً (كما فى حالة المخرج الهندى) الموسيقى المصاحبة للفيلم.

استغرق المخرج الهندى فى المحلية، فصور تصويراً بديعاً فى ثلاثية مشهورة معاناة عائلة تقع فى قاع المجتمع الهندى، وصراعها المستمر من أجل مجرد البقاء، فلفت أنظار العالم كله، وأصبحت أفلامه تعتبر من أفضل ما أنتجته السينما فى أى بلد وأى عصر. هذا هو المخرج ساتياجيت راى «satyajit ray» الذى قال عنه مخرج يابانى كبير «إن من لم يشاهد أفلام ساتياجيت راى هو كمن عاش فى هذا العالم دون أن يرى الشمس أو القمر». أما المثل الآخر فهو المخرج المصرى يوسف شاهين، الذى حقق أيضاً شهرة واسعة، لكنه لم يحقق جزءاً صغيراً مما حققه «راى» من اعتراف العالم به.

والسبب فى رأيى هو انشغال يوسف شاهين، فى الجزء الأكبر من حياته، (بعد بداية ناجحة) بالحصول على اعتراف العالم به، فاختار موضوعاته من بين ما اعتقد أنه يعجب الغرب، وعلى الأخص ما يمكن أن يحظى بإعجاب الدوائر المؤثرة فى الإعلام الغربى، ولم يلاحظ أو لم يبال بأن الجمهور المصرى لا يتعاطف مع ما يريد أن يقول، ولا يستسيغ حوار الفيلم أو لغته، فكان كمن يحرث فى بحر. أحدث دوياً كبيراً طالما كان على قيد الحياة، بفضل ما بذله من جهد مع وسائل الإعلام فى مصر وفى الخارج، ثم انقطع الكلام عنه إلا فيما يتعلق بأفلامه الأولى التى أخلص فيها لـ«المحلية».

■ ■ ■

وردت على ذهنى هذه الخواطر بمناسبة التفكير من جديد فى حياة وإنتاج ذلك الرجل العظيم، نجيب محفوظ، مع كثرة ما يكتب عنه هذه الأيام فى الذكرى الثامنة لوفاته فى 30 أغسطس 2006. فأعمال نجيب محفوظ يمكن أن توصف أيضاً، مثل أعمال «ساتياجيت راى» بالإغراق فى المحلية، وهو مثله لم تكن تحركه الرغبة فى إبهار العالم أو الحصول على اعتراف العالم به (كما يظهر من الأمثلة العديدة الدالة على زهده فى إقبال العالم عليه أو حتى فى السفر لرؤية العالم، بل من نوع استجابته لحصوله على جائزة نوبل فى الأدب) بل كان يحركه شغف شديد بفهم المجتمع المصرى، فكرس لذلك حياته كلها، وكانت النتيجة التى لم يسع إليها هى اعتراف العالم به واستمرار تقدير العالم له، سواء قبل أو بعد وفاته.

شغف نجيب محفوظ بنمط حياة الطبقة المتوسطة المصرية، بل بشريحة معينة منها يمكن وصفها بأنها الشريحة الوسطى فى داخل هذه الطبقة المتوسطة. ليست فى أعلى هذه الطبقة، ومن ثم فهى قليلة التأثر بنمط الحياة الغربية، ومتمسكة بتراثها وعاداتها التقليدية، ولكنها أيضاً ليست فى أسفل هذه الطبقة فلا تعانى من شظف العيش. كانت هذه الشريحة من الطبقة الوسطى هى الشريحة الاجتماعية التى نشأ فيها نجيب محفوظ وترعرع، بل وظل ينتمى إليها بنمط حياته ومزاجه حتى آخر أيامه. وكانت هى أيضاً الشريحة الاجتماعية التى يعايشها ويشعر بالارتياح إليها، ويراقبها ويسجل تأملاته عما يحدث لها، وعن آمالها وأتراحها، ولا يرى التاريخ المصرى أو السياسة المصرية إلا بعيونها.

هكذا أنتج نجيب محفوظ ما يمكن وصفه بالإمعان فى «المحلية». إنه لا يتجاوز حدود الدولة المصرية، وفى داخل الدولة المصرية لا يتجاوز المدن إلى الريف، وفى داخل المدن لا يكاد يتجاوز القاهرة أو الإسكندرية، وفى داخل هاتين المدينتين لا يكاد يخرج عن أحياء هذه الشريحة بالذات، من هذه الطبقة بعينها، فكيف يمكن أن نفسر ما يبدو وكأنه تضاد أو تناقض بين هذا النزوع القوى إلى المحلية وبين نجاح نجيب محفوظ فى إبهار العالم؟ أظن أن التفسير هو أن كل ما نشاهده من تنوع واختلاف بين أصناف البشر، ومن تعدد ثقافات العالم وتباينها، يخفى وراءه أوجه شبه عميقة بين الناس، بحيث يمكن لعين شخص حصيف، ومراقب ذكى وحساس لسلوك الناس اليومى، أن تلحظ أوجه الشبه هذه، فينفعل لها صاحبها، فإذا كانت لديه أيضاً القدرة على أن يضعها على الورق، استجاب القارئ له فى كل مكان، أياً كانت ثقافته وجنسيته. أظن أيضاً أن هذا هو سر النجاح الكبير الذى حققه الأدباء الروس العظام، وعلى الأخص أنطون تشيكوف، الذى يمكن أن يوصف أدبه أيضاً بالإغراق فى المحلية، لكنه ظفر بما نعرفه من إعجاب على مستوى العالم كله. لقد مضى على وفاة تشيكوف الآن أكثر من قرن كامل، ولا يزال اسمه وأدبه يتردد ذكرهما كل عام كما لو كان لايزال يعيش بيننا، وقد سئل مؤخراً مخرج لإحدى مسرحياته، بمناسبة إنتاج حديث لها فى لندن، عن السبب فى استمرار نجاح مسرحياته، وإعادة تمثيلها وقراءتها، رغم انقضاء كل هذا الوقت على ظهورها لأول مرة، فقال إن هم تشيكوف كان منصباً على ما يمكن تسميته بالطبيعة الإنسانية، والطبيعة الإنسانية لا تتغير على مر العصور.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نجيب محفوظ أو كيف تصبح أديباً عالمياً نجيب محفوظ أو كيف تصبح أديباً عالمياً



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates