من الذى يكره نظرية المؤامرة

من الذى يكره نظرية المؤامرة؟

من الذى يكره نظرية المؤامرة؟

 صوت الإمارات -

من الذى يكره نظرية المؤامرة

جلال أمين
بقلم: جلال أمين

 لابد أن أعترف بأنى واحد ممن يتهمهم البعض باعتناق «نظرية المؤامرة»، أعترف بذلك، ولكنى لا أشعر بأى انزعاج أو خجل من هذا الوصف. الأسباب كثيرة سبق أن أشرت إليها من قبل، ولكنها تتلخص فى أنى أعتقد أن قراءة التاريخ ومتابعة الأحداث الجارية (خاصة تلك الجارية الآن فى المنطقة العربية) تؤيدان مثل هذه النظرة، أضف إلى ذلك أن استخدام وصف «المؤامرة» فيه ظلم بالغ، لأننا لا نقول أكثر من أن كثيراً من الأحداث السياسية المهمة وراءه دوافع غير نبيلة لا يُفصَح عنها، بل يدَّعى أصحابها عكسها، (كما أنى ضد استخدام ما يسمى بالمؤامرة لتبرئة عهد ظالم وفاسد مثل عهد حسنى مبارك).

نعم، إنى أعرف أنى أميل إلى الشك بطبعى، ولكنى لا أنزعج أو أخجل من هذا أيضاً، إذ كيف تصل إلى الحقيقة إذا لم «تشك»؟ أولم يدعنا الفيلسوف الفرنسى ديكارت منذ أربعة قرون إلى الشك فى كل شىء، ونتج عن شكوكه فلسفة رائعة؟ نعم، قد يزيد الشك عن حده، ولكن ألم نعان فى تاريخنا الحديث بما فيه الكفاية ممن كانوا ومازالوا يتكلمون عن حقوق الإنسان ونصرة الديمقراطية ومساعدة الدول الفقيرة؟ أولم ندفع ثمناً عالياً كلما منحناهم ثقتنا؟

إن تكرار توجيه هذا الاتهام (باعتناق نظرية المؤامرة) لى ولغيرى، جعلنى أتساءل عمن هم بالضبط هؤلاء الذين يدأبون على رفض ما يسمونه بالمؤامرة، وما الذى يدفعهم إلى إنكار أشياء تبدو لى واضحة كالشمس؟ قادنى تفكيرى إلى تصنيف هؤلاء إلى خمسة أنواع من الناس، بعضهم شديد الخبث، وبعضهم بالغ التحيز، ولكن منهم أيضاً أشخاص أحمل لهم كل احترام وأقدر نبل دوافعهم.

النوع الأول: وهو لا يحتاج إلى شرح، هو طبعاً المتآمرون أنفسهم، إذ هل نتوقع أن يعترف من يدخل بيتك لسرقتك، إذا اكتشفت دخوله فى الظلام الدامس، أن يعترف لك بالدافع الحقيقى لمجيئه؟ ألن يحاول أن يخترع مختلف التبريرات غير المقبولة لمجيئه، كأن يقول مثلاً إنه يتعقب إرهابياً سبق أن دخل قبله؟

النوع الثانى: أقل خبثاً، ولكنه أيضاً لا يضمر لك الخير.. إن لديه تحيزات قديمة ضدك، لسبب أو آخر، إما بسبب حاجته إلى رضا المتآمرين عنه أو بسبب شعور لديه بأن علو شأنك ونجاحك فى التقدم والنهوض سوف يقللان من شأنه ويضعان حداً لخرافة آمن هو بها منذ زمن، وهى أنه متفوق بطبعه عليك، ولا يريد أن يقبل ما يعارض هذه الخرافة.

إنه يريد لك دوام التخلف والفقر، وأن يجد دائماً تفسيراً لهذا التخلف والفقر فى صفات متأصلة فيك، ومن ثم فهو يرفض إلقاء المسؤولية عما أنت فيه على غيرك، إذ إن هذا ينطوى على نفس هذه الصفات الخبيثة التى ينسبها لك.

لقد عرفت فى حياتى كثيرين من الأوروبيين والأمريكيين، الذين تنطوى قلوبهم على مثل هذه المشاعر نحو شعوب الدول الأفقر منهم فى أفريقيا وآسيا، وهؤلاء يجدون فميا يسمونه بنظرية المؤامرة، ما يسمح لهم باستمرار شعورهم بالتعالى والتكبر على هذه الشعوب، فضلاً عن أن الاعتراف بوجود «مؤامرة» قد يثير ذكريات لا تسرهم عما سبق أن فعلته بلادهم عندما كانت تستعمر بلادنا.

هناك نوع ثالث أقل خبثاً، لا يدفعه إلى معارضة نظرية المؤامرة إلا تهديدها لمصلحة مهمة لديه، إنه ليس متآمراً ولا متعاطفاً مع المتآمرين، ولكن شاءت له الظروف أن يتخصص فى فرع من العلوم السياسية، وهى علوم لا يمكن أن تقوم على أفكار من النوع الذى يسمى بنظرية المؤامرة. فأصحابها لأنهم يعتبرون أنفسهم من العلماء، ويحبون أن يعتبرهم الناس كذلك، يغوصون فى تفاصيل الخلافات والصراعات الدائرة فى المنطقة التى يتخصصون فيها، ويهتمون بمسائل من نوع أسباب سقوط حكومة ومجىء أخرى، أو لماذا زادت أو انخفضت نسبة المصوتين لهذا الرئيس أو ذاك، وقد يصرفون النظر أثناء ذلك عن أن الانتخابات كلها مزورة من البداية وعن الأسباب التى تجعل نظاماً فاسداً وغير محبوب يستمر فى الحكم ثلاثين أو أربعين عاماً، لأنهم لا يريدون الخوض فى الدور الذى تلعبه قوة خارجية فى دعم هذا النظام، ليس بالضبط لأنهم يحبون هذه القوة الخارجية، ولكن الاعتراف بأن لها هذا الدور الحاسم يجعل التفاصيل والمعلومات التى بذلوا جهداً كبيراً فى تحصيلها، قليلة أو عديمة القيمة.

بالإضافة إلى هذه الأنواع الثلاثة من الكارهين لنظرية المؤامرة، أعرف نوعاً آخر من الناس لديهم نفور طبيعى منها، لأسباب نبيلة تماماً. إنهم يحملون فى العادة قلوباً صافية ومشاعر صادقة، ويتمتعون بالذكاء الكافى، ولكنهم بالإضافة إلى ذلك يطوون قلوبهم على ميل قوى جداً إلى القيام بخدمة مفيدة لوطنهم، ولا يشعرون بالراحة إلا إذا أحسوا بأنهم يساهمون فى تحقيق مصلحة هذه البلاد البائسة التى ينتمون إليها، ولكن الاعتراف بوجود شىء مثل المؤامرة، من جانب أطراف قوية يصعب إلحاق الهزيمة بها، قد يضطرهم للاعتراف لأنفسهم ولغيرهم بأن ما يبذلونه من جهد لصالح الوطن لا طائل وراءه، إذ إن تحقيق الآمال يتطلب انتصاراً على أطراف أقوى منهم بكثير. هذا النوع النبيل من الناس يصر إذن على أن الانتصار ممكن، حتى فى ظل ظروف صعبة للغاية، وهذا يدفعهم للأسف إلى تضخيم ما يعلقونه من أهمية على عوامل وأحداث صغيرة وضعيفة الأثر.

النوع الخامس من كارهى نظرية المؤامرة، نوع أقل ندرة، ولا عيب فيهم على الإطلاق، ولكنهم مولودون بمزاج علمى حاد يجعلهم لا يستريحون إلا إلى نتائج يقينية. إنهم لا يحبون نظرية المؤامرة لأنها لا تشبع هذه الرغبة الملحة فى الحصول على «اليقين»، إذ إنها بطبيعتها قائمة على الظن والتخمين. إن أصحاب الأفكار المسماة بنظرية المؤامرة لا يقطعون بشىء، وليس لديهم طريقة لإثبات صحة أفكارهم بأدلة يقينية، وإنما يحاولون فهم ظواهر سياسية غريبة لا يمكن فهمها إلا بمثل هذه التخمينات والظنون التى قد تستند فعلاً إلى ما يجعلها ممكنة معقولة، بل وحتى ما يرجح صحتها، ولكن لا شىء يمكن أن يخلع عليها صفة اليقين.

نحن نعيش للأسف فى عالم من هذا النوع، عالم ملىء بالأحداث والظواهر السياسية الغريبة التى لا مفر أمامنا، إذا أردنا فهمها، إلا فى محاولة التخمين، خاصة أن هناك من يتعمدون تضليلنا وصرف أنظارنا عن الدوافع الحقيقية لهذه الأحداث. فلينعم إذن الباحث عن اليقين بجهوده فى هذا السبيل، كما أنه ليس لدينا ما نوجهه إلى محبى الإصلاح، والمصرين على قدرتهم، بجهودهم المستقلة، على تحقيق كل ما نأمل فيه، إلا أن نثنى على جهودهم، ونتمنى أن يكونوا هم على صواب وأن نكون نحن على خطأ.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من الذى يكره نظرية المؤامرة من الذى يكره نظرية المؤامرة



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates