الـقـبـر ظـلّ  فـارغــاً

الـقـبـر ظـلّ .. فـارغــاً

الـقـبـر ظـلّ .. فـارغــاً

 صوت الإمارات -

الـقـبـر ظـلّ  فـارغــاً

حـسـن الـبـطـل
بقلم : حسن البطل

«ميتة شنعاء». قال الصديق معقباً على الرواية.
أنا الراوي . الرواية لم تنته بالموت . أنا الراوي الحي لقصة موتي. ها أنا أنظر - بعد ثلاثين عاماً من مشروع موتي إلى مشروع قبري. أنظر من سفح الجبل إلى قبري في حضن الجبل.
لكن، يوم متّ .. سقطت، فأخذني انفجار عتمة الموت في ضوء القمر. كنت أركض ليلاً، فهويت في خسفة من جبل قاسيون، المطل على دمشق.
ليلاً لاقيت حتفي البشع. كانت الأنوار أقل مما هي الآن. أنوار دمشق الشام؛ وأنوار شرفة المدينة على جبل قاسيون.
جبل يحوي بعض رفات أولياء الله الصالحين. هؤلاء لم يموتوا مثل موتي؛ ميتة التيس الذي تردّى في خسفة كارستية في بطن جبل قاسيون.
هذا يكون ليلاً، وإذا نظرت من الجبل إلى دمشق:
أما نهاراً، وفي وضح الشمس، يبدو ذلك الانخساف الكارستي يقطع انحداراً سلساً للجبل. تبدو «الخسفة» مثل فم فاغر لعجوز أدرد. في مثل ضحكة عجوز تبدو «الخسفة».
قبل أن أموت، قلت: لنركض. لنتسابق في نزول الجبل هرولة. كنت ضامناً الفوز في ذلك السباق الليلي؛ في ذلك اليوم الصيفي .. في ليل اكتمل بدره الأبله.
كنا تسعة شباب أو عشرة. بدأنا سباقاً من أسفل مبنى البث التلفزيوني على قمة جبل قاسيون. كان ذلك سباقي الليلي الجبلي الأول، منذ كنت غلاماً أتسابق مع أصحابي في قيظ الظهيرة. نتدحرج على سفح جبل آخر. جبل أجرد يحدّ سهول الغوطة شمالاً. جبل اسمه «أبو العتا» فهو جبل عاتٍ.
كان في أسفل جبل الطفولة عين ماء غريبة؛ عينا ماء غريبتان .. ومتجاورتان: واحدة باردة مياهها؛ والثانية مياهها كبريتية فاترة. تصبّان في بركة، وتصنعان جدولاً يصل «مستشفى المجانين»؛ مشفى ابن سينا، على طريق دمشق - حمص. وقالوا: كان يصل تدمر في زمن زنوبيا.
كنا نسبح في تلك البركة. نأكل تيناً جبلياً شهياً، ثم نتسابق إلى صعود الجبل .. ونتسابق في نزوله.
في سباق النزول القديم، كنا ندفع جلاميد إلى الهاوية. تتقافز الجلاميد كالشياطين.
عندما تهمد أسفل السفح .. تغدو تامة الاستدارة.
قد يتساءل هواة الآثار عن «شياطين» نقروا هذه الجلاميد. دعهم يتساءلون عن سر جلاميد مكوّرة قطرها متران أو ثلاثة.
كان ذلك يجري على سفح جبل «أبو العتا» أعلى جبال السلسلة التدمرية، المتفرعة عن جبال لبنان الشرقية.
سنكون يوماً تحت الثرى، والجلاميد المكوّرة ستبقى دهوراً في الهواء الطلق لحيرة علماء الآثار!
في سباقي الجبلي، الذي انتهى بموتي، على سفح جبل قاسيون، كنت في الطليعة. أركض نحو موتي؛ نحو انفجار عتمة الأبيض الأخير.
في لحظة ما، في ذلك السباق الليلي، قررت التوقف. أنت لا تتوقف متى تريد إن كنت تركض نزولاً سفح الجبل. في السباق القديم كانت الجلاميد تتقافز كأنها شياطين. في السباق الجديد قرّرت التوقف. كانت شياطين تدفعني نحو موتي. تذكرت الغولة أم «الخلاخيل» !
أفلحت في التوقف. التفت خلفي إلى الرفاق الكسالى، بدت لي أشباحهم شيطانية. كان القمر من ورائهم .. وظلالهم الطويلة تكاد تمسكني. نظرت أمامي. خطوت خطوة عادية واحدة .. ثم تسمرت رعباً. كانت خطوة أخرى ستقذفني إلى هوّة الانخساف؛ الذي يبدو واضحاً من المدينة نهاراً، ومموّهاً ليلاً .. إذا نزلت الجبل ركضاً. انخساف يبدو من المدينة مثل ضحكة رجل عجوز، أدرد الفم.
آه. عشرين سنة لم أزر مشروع قبري ذاك. وها أنا ألقي بالتحية على قبري. يضحك قبري مثل عجوز أدرد الفم كلما يراني. يقول لي: هذا قبرك. تعال. فأقول: كلا .. سأركض يا قاسيون على سفح الكرمل كما ركض أخي القتيل.
وقالت أمي: كان لنا ولد اسمه حسن. كان أشقر الشعر، أخضر العينين. كان جميلاً. يا ولدي حسن. كان أجمل منك «يا وبش». كان في الثالثة عندما ركض على سفح الكرمل. سقط، شجّ رأسه. مات بعد ثلاثة أيام. أعطيناك اسمه. كان أحلى منك.
«ميتة بشعة» قالت أمي عن أخي حسن الذي أحمل اسمه وقدره. وهي تعرف أن أخي الفدائي سعيد مات ميتة شنعاء أيضاً.
وقال الصديق معقباً على الرواية؛ روايتي - أنا حسن غير القتيل: «ميتة رهيبة».
ولكن الراوي لم يمت بعد. والقبر على سفح قاسيون ظل فارغاً.
لي في سفوح الكرمل مشروع قبر آخر، ينتظر سباقا ليلياً أخيراً.

حـسـن الـبـطـل

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الـقـبـر ظـلّ  فـارغــاً الـقـبـر ظـلّ  فـارغــاً



GMT 17:50 2024 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

عودة الجغرافيا السياسية: حرب أوروبا

GMT 20:10 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

السم بالتذوق

GMT 20:03 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

مراهنات خطيرة في السودان

GMT 19:59 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

الحرب الأهليّة في تأويل «حزب الله» لها

GMT 19:55 2021 الأربعاء ,27 تشرين الأول / أكتوبر

السعودية... الحقبة الخضراء

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates