بقلم - حسن البطل
في ساحة الأسود الأربعة، والنخلات الستّ العاقرات، تلتقي، بالتعاكس والتوالي، ثلاثة روافد، وتتفرّع ثلاثة فروع، أهمها فرعان كبيران: شارع القدس الذي صار شارع فلسطين جنوباً، وشارع ركب غرباً، وهو على شاخصات البلدية يسمى «الشارع الرئيسي» من الساحة حتى مفترق مقهى ركب (تأسّس 1941) يبقى ركب ـ الرئيسي، ذا اتجاه واحد، وبعده في اتجاهين.
كاد الشارع ذو الاسمين، الشعبي السائر على الألسنة والرسمي المعلق على شاخصات الطرق، أن يتسمى باسم ثالث عابر، أطلقته عليه «شارع بنت جبيل» حيث دارت معركة العام 1996 بين جيش إسرائيل وميليشيا «حزب الله».
من ساحة الأسود الأربعة، التي هي «ساحة المنارة» حتى يصبح الشارع وحيد الاتجاه باتجاهين، ثلاث علامات، أو دكانتان وعربة الأخوين وليم وسابا، مقابل «ركب»، وهي عربة في مكانها منذ العام 1976.
العلامة الأولى لعلّها آخر دكاكين الشارع الرئيسي، في عمارة من طابق واحد محمية من الهدم، في أغلى بقعة عقارية في مدينة رام الله، هي والمقر الرئيسي للبنك العربي (كانت بطبقة وصارت باثنتين)، وقريباً منها، في طرف الشارع الآخر، عمارة محمية ذات قبعة قرميدية وحيدة في الشارع بأسره، تحتلها دكانة «الوردة الحمراء» وصيدلية طوباس.
قبلاً، كان محل من ثلاثة محلات دكانة لبيع السجاجيد والبسط، وصارت مقراً الكترونيا حديثاً جداً لـ «بنك فلسطين»، في تناقض وتنافر شديدين مع آخر دكاكين شارع ركب الغارقة في القدم. مجرد بسطة على حافة الدكانة والرصيف لنثريات الشيكولاتة والعلكة (اللبان) ومناديل الجيب الورقية، يجلس خلفه صاحبها العجوز العتيق، ووراءه صورة جمال عبد الناصر الرسمية.
لا شيء في داخل الدكانة وإظلامها التام من الإنارة الكهربائية، سوى مروحة تدور صيفاً، وشيء غريب ـ عجيب، حيث براد عتيق جداً، صار «نملية» علب مرطبات معدنية، يفضح موتها من الكهرباء، مصباح وحيد من «النيون» الأبيض البارد.
دكانة من زمن غابر، قيل إن العقاريين عرضوا على صاحبه العجوز مليون دولار للبيع، أو تأجيره وتحديثه مقابل عشرات الآلاف شهرياً.. أو يقوم ورثته بذلك.
كان للدكان اسم في «زمن العزّ» يمكن قراءته بصعوبة بالغة: حلويات السنترال.
لا حلويات الآن، ولا سنترال قديم لبدّالة هاتف يدوي قديم، أو أن سنترال من مركز البلد، لأن «المنارة» ساحة البلد.
صارت الدكانة تسمى «ميني ماركت» ثم «سوبر ماركت» في شارع شهير لمدينة تنمو على عجل، وخارج الشارع «مولات» هي الاسم التجاري العالمي لما كان يسمى «سوقا».
مقابل أقدم وأشهر مقاهي المدينة، بحيث اسمه صار اسم أهم الشوارع، هناك دكانة ترفع في مقدمتها صورة ياسر عرفات الرسمية، وهي، أيضاً، بلا اسم تجاري، مضاءة بلمبات كهرباء قديمة، وفي داخلها بضائع متنوعة تتقدمها بسطة نثريات، ورفوفها تصطف عليها علب السكائر، وأيضاً مشروبات روحية، وعلى رصيف الدكان ميزان يعمل بالشيكل والصحف اليومية الثلاث.
عجوز ونجله الشاب يديران الدكانة. الأب يقعد على الكرسي، والابن يقف خلف البسطة. خلاف محلات تغير ديكوراتها الحديثة والهشّة بديكورات أحدث وأكثر هشاشة كل عام، فإن مقهى ركب غيّر ديكوره مرة واحدة منذ ربع قرن، بديكور متين.
على قارعة ركن آخر مقابل المقهى والدكان الأقل قدماً، يدفع الأخوان وليم وسابا عربتهما من رام الله التحتا، منذ قرابة العقود الأربعة ونصف العقد، وهي محمّلة بطناجر ونصّيات من الذرة المسلوقة، أو حبات الذرة المفروطة، أو حبات الفول العريض المسلوقة.
كان الأخوان وليم وسابا (ولا أعرف من بينهما الأكبر) شابين أوّل الكار والعربة، وشابا على العربة الأخيرة التي تبيع الفول النابت وعرانيس الذرة المسلوقة، ولا يبدو لي أن أولادهما سيرثان الكار والعربة عن أبويهما، ولن يبيع أحد آخر عرانيس الذرة المسلوقة، أو الفول المسلوق النابت.
في أيام الجمع الأسبوعية، ترتاح الأرصفة من السابلة والمتسكّعين والمتسوّقين، وكذا تغلق معظم المحلات أبوابها، لكن ليس الدكانتان القديمتان، ولا مقهى ركب، ولا عربة الأخوين سابا ووليم. في مقهى البوظة الشهير نلتقي في لمّة يوم الجمعة الصباحية. قهوة وسكائر، صحفا وكتبا وجدالا ونقاشا حول أمور الساعة والثقافة، والبعض من يحلو له أن يستعيد طفولته وشبابه ببوظة «راس العبد» المطلي بالشيكولاتة.
لم يحصل أن ابتعت شيئاً من أعتق دكانة كانت تسمى «حلويات السنترال» لكن أشتري جريدتي يوم الجمعة من الأب والابن الأقل قدماً، وفي غير أيام أبتاع كوز ذرة مسلوقاً، أو حفنتين من الفول النابت بخمسة شواكل.
كلام غابر عن دكاكين غابرة، وربما أصير، أيضاً، شيئاً غابراً.