بقلم - حسن البطل
ركوة القهوة على النار، ونظرة من شبّاك المطبخ إلى علَم أزرق فوق سارية مدرسة ذكور إعدادية لـ «الأونروا». نأمة نسيم، أو هبّة ريح غربية تلهو برفرفة العلم، كأنها تحاكي لغة رموز حركة الكشّافة، أو لهجة إشارة لغة مورس. لتحديد المواقع الجغرافية هناك هذه الـ “G.B.S”. نظرة من النافذة الغربية للمطبخ للعلم الأزرق في هبّة نأمة نسيم أو ريح، فأفتح باب الشرفة مشرعاً أو موارباً. نافذة غربية ونافذة شرقية.
لموقع الشرفة والعمارة اسم هو «بطن الهوا». تلّتان تسوقان الريح البحري الغربي المنعش، كأنهما جناحا طائر الرخ الأسطوري القديم، وللعمارة أن تفتح ذراعيها لريح «بطن الهوا».
رخية نأمة النسيم في أيام هجير شهور الصيف، وفي أيام شهور الشتاء تهبّ رياح «بطن الهوا» عاصفة مُولولة.
هذه الموجة الثانية من «الست كورونا». قبل موجتها الأولى كانت تحلو صبحيات الجيران السريعة مع القهوة والماء ودخان السكاير، وفي الموجتين صارت تحلو قعدات المسارات والسهرات المطوّلة، والجيران صاروا كأنهم «عيلة».
في موقع «بطن الهوا» عمارة ثلاثية: المحبّة واحد، المحبّة اثنان.. المحبّة ثلاثة، ويحدّها غرباً مدرسة صارية العلم الأزرق الدُولي، ويحدّها شرقاً «مدرسة عزيز شاهين» الثانوية للبنات، وحضانة A.B.C للأطفال.
يقولون: «الجار قبل الدار» أو مرآب (باركنغ) العمارة في أهمية موقع العمارة والشقة. مرآب مفتوح لاحتضان نأمة ونسيم الريح الغربي.
سكان العمارة عجينة من الشعب، كما حال سكان رام الله التحتا، كما حال رام الله العاصمة الإدارية للسلطة الفلسطينية. البعض من نابلس وجنين وطولكرم. البعض من عائدي ما بعد «أوسلو» مدنيين وعسكريين، والبعض من القدس.. وهذا الـ «باركنغ»، الذي يفتح ذراعيه على وسعهما للريح الغربي، له تصميم هندسي مريح. كل «موقف» لساكن بين عمودين (عضادتين).
في المرآب لمّة عشوائية متحركة لكراسي بلاستيك، وطاولات لقعدات الكبار في الصبحيات والسهرات. مباريات في لعبة طاولة الزهر، أو لعبة الشدّة. للصغار، بين عمر الرابعة والسادسة، بسكيلاتاتهم الصغيرة الحمراء، وبها يدرجون، أو يتقاذفون الطابات، فإن زهقوا غيّروا اللعبة إلى «لعبة الحرب» الطفولية ببنادق البلاستيك بين الأعمدة أو العضادات في ملعب الـ «باركنغ» الفسيح.
بدلاً من القول اللبناني: «هنيئاً لمن له مرقد عنزة في جبال لبنان»، قد نقول: هنيئاً لمن له بيت في رام الله وفي رام الله التحتا، وفي عمارة المحبّة 3 بالذات، ذات أحسن مواقف لسيارات السكان. كل موقف بين عضادتين، وصار بين كل عضادتين متجاورتين خزانة من الخشب لوضع عدة بسيطة لأشغال السيارات، أو عدة نجار، أو حتى عدّة حدّاد بسيطة لبناء قباء يروض جهات نأمة النسيم إن هبّت، وتطايرت أوراق لعبة الشدة على الطاولات.
شبه جدية لعبة أولاد المدرسة الإعدادية في كرة القدم. يتسلقون الباب الحديدي العالي المغلق أيام العطل المدرسية، في ساعات ما بعد الظهيرة وقبل ساعات الغروب. شبه عشوائية لعبة أولاد العمارة الصغار في سياق الدراجات الصغيرة، والطابات الملوّنة، وبنادق البلاستيك.
لبعض سكان العمارة، وشركاء مواقف السيارات أولاد شباب. للبعض الآخر من الأزواج الشباب أولاد صغار. للبعض الثالث من الجيران أحفاد صغار. ماذا لي أنا الساكن والجار، صديق الكل سوى مرتبة لا ينافسني فيها ساكن ـ جار، وهي «مشيخة» سن العمر السبعيني، والكاتب الصحافي الوحيد بين ضباط متقاعدين وموظفين في السلطة أو في الشركات.
ما الذي كان ينقص العمارة؟ حديقة طولانية تعاون الجيران في بنائها على كتف تفصل المدرسة عن العمارة، لترفرف أوراقها في لعبة ريح تداعب عمارة في «بطن الهوا».
رام الله التحتا مدينة صغيرة ملحقة بالمدينة الكبيرة. مزيج غريب من بيوت قديمة وعمارات حديثة، وسوق شعبي متنوع يغنيك، غالباً، عن أسواق المدينة.. وهذا الريح البحري الغربي المنعش، وجلسات صبحيات ومساءات وسهرات تغنيك عن مقاهي البلد.
رام الله التحتا تقاليدها القديمة في احتفالات الأعراس، واحتفالات نجاح الأولاد في امتحانات الثانوية.. وكذا حفلات الابتهاج بالإفراج عن المناضلين من الأسرى.
«رب صدفة» وصدفة جعلتني جاراً في عمارة. من كان يتصور أن يتذكرني جار كان طفلاً في مدينة دوما السورية، وصار برتبة مقدم في الأمن الوطني، وجاراً لعقيد متقاعد في العمل الفدائي «رب أخٍ لك لم تلده أمّك» وصار عقيد متقاعد آخر كأنه أخي، متعدد المهارات التي تلزمني في تسيير أمور شقتي من أعطال.
على باب شقتي في الطبقة الخامسة من عمارة المحبة في «بطن الهوا» هذه العبارة: «بعض الناس يضيئون العالم لمجرد وجودهم فيه».