بقلم - حسن البطل
صرف السفير الفلسطيني، ومستعربة بلغارية، ليلة بطولها في ترجمة مقال ومقابلة، أجرتها معي مجلة «بوسفته» البلغارية. كنتُ زرت صوفيا، في الشهور الأولى للانتفاضة الأولى، بدعوةٍ من صديقي المقيم هناك، خالد درويش. «بوسفته» تعني «العالم» وتنشر مقالات مترجمة على غرار مجلة «فورين أفيرز» الأميركية.
لا المقابلة ولا المقالة نالت استحساناً عاماً في صفوف الجالية الطلابية الفلسطينية هناك. جوابي لسؤال في المقابلة: هل ستؤدي الانتفاضة إلى حرب أو سلام؟ كان أنها ستؤدي إلى تسوية سياسية.
المهم، أن ذلك كان قبل إعلان المجلس الوطني في الجزائر قيام دولة فلسطينية.
كما نعلم، كانت بلغاريا الاشتراكية تعطي منحاً دراسية لحركات التحرر ودول العالم الثالث الصديقة. في جولة شوارع بصوفيا، علمت أن طلاباً من فيتنام يتاجرون بسوق سوداء موازية، للفوارق بين السعر الرسمي للعملة البلغارية (ليغا) وعملة الدولار الأميركية العالمية.
غادرنا بيروت، وكان سعر صرف الليرة مقابل الدولار هو ثلاث ليرات لكل دولار. الآن، صار سعر الصرف 1000 ليرة بفعل الفساد اللبناني، وأما هذه (ليغا) فسحبت من التداول لصالح عملة (يورو) الأوروبية.
احتفلت منظمة التحرير ومجلتها المركزية بتحرير سايغون (هوشي منّه لاحقاً) في العام 1975، وكتب زميلنا إبراهيم برهوم مقالة لامعة معنونة «اكتمل قمر فيتنام» وأهدت فيتنام علم النصر لفلسطين.
نعرف حال المنظمة والسلطة الفلسطينية، لكن فيتنام الأسطورية النضال اختفت من أحداث العالم، لصالح صراع الكوريتين، والآن، انقلاب بورما العسكري.. في إطار صراع أميركي ـ صيني.
قبل سنوات قليلة، زار صديقي المخرج نصري الحجّاج فيتنام الموحّدة، وكان الزعيم الأسطوري السياسي هوشي منّه، صاحب لحية العنزة قد رحل؛ وقائد «الفيت كونغ» الأسطوري المنتصر فنغوين جياب كان على قيد الحياة متقاعداً (رحل لاحقاً) وتحدث جياب عن صديق النضال الفلسطيني «أبو جهاد».
كان «أبو جهاد» زار فيتنام الشمالية، قبل اندلاع الكفاح المسلح الفلسطيني، بقيادة «فتح» لأخذ العبرة والدرس. آنذاك، سأل القائد الجنرال جياب القائد أبو جهاد: هل ستفجرون ثورة في منطقتكم هذه بلاد النفط، وفي جوار أوروبا؟ ستكون هذه «ثورة المستحيل»، أمّا نحن فالاتحاد السوفياتي والصين الشعبية تدعمان كفاحنا!
ثلاث سنوات من العمل الفدائي الفلسطيني السرّي، وصار بعد معركة الكرامة علنياً، وانتقل ياسر عرفات من الناطق الإعلامي للحركة الفدائية إلى رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، وبعد خروج الأردن، بفعل التناقض بين ما دعي «منطق الثورة» و»منطق الدولة»، انتقل هذا المنطق لساحة لبنان. المعارك مع الجيش الإسرائيلي رافقتها معارك الحرب الأهلية، وقطع الطلاب الفلسطينيون في جامعات العالم دراستهم، وكذلك شكّل الإعلاميون والصحافيون الفلسطينيون رفداً لقوات المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية، ومن بينهم زملاء في «فلسطين الثورة» وممّن شاركوا الشاعر والمحرّر الأدبي عز الدين المناصرة، وممن استشهد رشاد عبد الحافظ، نائب رئيس التحرير.
عن مشاركته، وضع المناصرة شهادته في دفتي كتاب «عشاق الرمل والمتاريس»، وأشار إلى أول سوسة الفساد، عندما كان الإعلاميون يكتبون للإدارة المالية على أي ورق كان عن مصاريفهم، بما فيه ورق قصدير علب السكائر، وعن تحويل النفقات من بند إلى بند آخر. مواصلات، وعلبة دخان إضافية.
كان «راتب» الكادر والمناضل وقتها يسمى «مخصص»، وكانت المخصصات تصرف نقداً يوم 26 من الشهر، وليس عن طريق البنوك، كما هو حال موظفي السلطة، كما أن قيادة المنظمة لم تسافر قط من مطار بيروت، بل من مطار دمشق، لأسباب أمنية في مطار بيروت.
كانت نفقات المتطوعين تبلغ مليون ليرة يومياً (أي 350 ألف دولار)، فقال عرفات: «ارحموا هذه المنظمة» كما قال: «صار خيرة طلابنا لحم مدافع الحرب»!
في بداية السلطة، كانت «الرواتب» تصرف بالحقائب، ويوقع عرفات تعليمات الصرف، وصارت تُصرف عن طريق البنوك، وتأسس ديوان عام الموظفين، وصارت دوائر المنظمة وزارات سلطوية، وميزانية السلطة «يا دوبك» تبلغ بين خمسة وستة مليارات، وأوراقها الرسمية تحمل عبارة «دولة فلسطين».. والناس لا يقولون: ارحموا هذه السلطة.. لا نضالياً، لا سياسياً ولا مالياً.. بل متهمة: سلطة فاسدة!
لا أعرف هل هناك فساد في حكومات فيتنام الموحّدة، لكن جبهة التحرير الوطني الجزائري انتهت إلى فساد سلطوي ومالي وإداري، أما نضال مانديلا، مسيح العصر، فقد رحل وجاء بعده رؤساء فاسدون خضعوا للمحاكمة.
وكتب فلسطيني مهاجر: الحمد لله أن دولاً عربية فاسدة أكثر من فساد حكومات السلطة الفاسدة نضالياً، بفعل هذه الأوسلو، علما أن سورية البعثية تحتج دبلوماسياً على انتهاك متعدد الأطراف لسيادتها، أكثر مهانة من انتهاك إسرائيل لسيادة السلطة الفلسطينية على أراضيها ومعابرها براً وبحراً .. وبالطبع جواً.
آخر اتهامات الفساد السلطوي جاءت مع جائحة «الكورونا»، وتوزيع لقاحاتها غير العادل، ورافق ذلك سخرية جارحة من وزيرة الصحة، حتى بعد نشر الوزارة كشفاً عن تلقيها دفعة صغيرة من اللقاحات، صُرفت وفق كشف مفصل.
***
هل ستقطع الانتخابات الفلسطينية الثالثة دابر الشكوى من الفساد الديمقراطي؟ أحد المشككين بذلك ادعى أن «حماس» تُعد كميناً لحركة فتح، فهي تريد «حصة» من تشكيل قائمة وطنية ـ فصائلية مشتركة، ولكن سوف تنصح أعضاءها ومناصريها بالتصويت لقائمة حمساوية موازية. يعني حصة ونصف الحصة!
***
كم كان عدد المستشفيات الفلسطينية قبل وبعد السلطة؟ هذا سؤال. لكن كان هناك قبل جائحة «الكورونا» 53 وحدة عناية، وصار 350 وحدة كلها مجهزة بأجهزة تنفس، وتم توظيف 1500 كادر طبي وممرض جديد، خلال سنة «كورونية» واحدة.
العبرة هي: من الصعب أن تكون سلطات الدول مناضلة، وفاضلة معاً، وخاصة حركات التحرر