بقلم - حسن البطل
كانوا يجاورون بيت الله الحرام، وها أنّ السيد الفلاّح سلامة مَنّ عليَّ ومَنَحَني نعمة مجاوَرة بيت فلسطيني - فلسطيني في ذلك الوادي الأخضر والمروّض الذي عشقته (على كثرة وديان ضفة التلال هذه) كما عشقت عجيبة وادي القف الفطري، الذي يوصلك من الخليل إلى ترقوميا.
قلتُ جاورت، وأعني ما يقولون: «حَلَلْتَ أهلاً ووطئت سهلاً»، أي أمسيت وأصبحت مراراً في «جناح» زميلي عبد الله عوّاد.
قهوة الصباح، وإفطار أسروي في مطبخ فلاّحي متواضع أشبه بـ«الخشّة».. وفطور كما فطور أمّي مريم لأولادها وبناتها.
سوى؟ سوى ماذا؟ أمّي الفلاّحة وأبي الفلاّح وإخوتي، كما أمّه وأبيه وإخوته.. سوى أن ما يملأ الصحون هو مائة بالمائة (تقريباً) من شغل يدي أمِّه وأبيه في أرضهما في الوادي، الأشبه بـ «غوطة صغيرة» قطوفها دانية (كنت لصّاً في صغري مع قطوف أشجار غوطة دمشق).. لماذا «تقريباً»؟ لأنّه باستثناء السكر والشاي، فإنّ الخضراوات كافة والفاكهة كافة، والزيت (يكاد يضيء).. ودقّة الزعتر، البيض واللبنة.. جميعها من الحقل إلى المائدة.
أشهد أنني رأيتُ السيد يصنع الصابون (أعطوني فأخذت)، ورأيت ربّة البيت تدقّ الزعتر جلوساً، كما تقعد الفلاّحة: قدم ممتدة، وأخرى مطوية.
أشهد أنّني رأيت أولاد النجل الأكبر للسيّد في الوادي، زميلي عبد الله، وزجاجات الحليب في أفواههم، ثم رأيتهم وقد نما الشعر في محيّاهم؛ وأنّ «الأسرة النووية» أضحت «عيلة ممتدة»، كما تمتد عروق النعنع (ونحن شعب الصبر والنعنع).
ستقولون.. ها؟ هذه أسرة فلاّحية تقليدية جداً، وسأقول: لا.. هذه أسرة فلاّحية أصيلة بقدر ما هي راديكالية. الثلاثة الكبار من أولاد السيد سلامة الخمسة اجتازوا امتحان «مدرسة السجن» في يفاعتهم، وغمار الانتفاضة الأولى، وسبقهم الوالد نفسه في ميعة رجولته.
أحدهم، مهيب خرج بجراح حرب في أصابع مبتورة في كفّيه الاثنتين، عندما كان يعالج أو يعدّ شيئاً متفجّراً.
السيد وجيه من وجهاء لجان الإصلاح في قرى وادي عين عريك، وأنجاله نشطاء فلسطينيون - فلسطينيون في تنظيم «فتح».. هذا المعروف يكمّل ذلك الواجب، وقران المعروف بالواجب أعطى للسيد سلامة وأنجاله صيت أسرة مسيحية مناضلة، في قرية فلسطينية نصفها مسيحيون ونصفها الآخر مسلمون.. وكأنّ هذه الوشيجة لا تكفي دون «مخيم صغير» هو نصيب القرية من النكبة الفلسطينية.
أعرف، قليلاً، عابود المتآخية، وكثيراً أعرف بيرزيت المتآخية.. ولكن التآخي في عين عريك أرسى تقليداً لم أكن أعلم به: عندما يموت ابن القرية المسلم، يتولّى أبناء القرية المسيحيون واجب «إطعام أهل الميّت».. والعكس.. بل ويُقال إنّ مسيحيّي القرية تبرّعوا لبناء مئذنة المسجد فيها (ولعلّها أعلى مئذنة رأيتها في ضفّة التلال هذه).
كثيراً ما جادلتُ زميلي عبد الله في كتاباته المشاكسة على هذه الصفحة (وكنّا اشتركنا، كزملاء، في جريدة يومية بمقاطعة أريحا، وجريدة أسبوعية في رام الله). قال لي، في واجب عزاء السيد الوالد: «اسكت.. أنت وطني ولست فتحاوياً»! هل قعدة قصيرة في مجلس العزاء لا تشغل زميلي عن أزمة مؤتمر فتح؟
ربما الحق معه، فقد سقطت «قائمة فتح» في دائرة رام الله بانتخابات البرلمان الثاني.. إلاّ واحداً، هو ثاني أنجال السيد سلامة، النائب مهيب عواد. هل نجح لأنّه «فتح»؟ أو لأنه نجل السيد سلامة، رحمه الله، وابن أسرة وعائلة وطنية.. وعلى الأغلب فاز مهيب بأصوات ناخبيه المسلمين أكثر من ناخبيه المسيحيين.
تعلّمتُ شيئاً من جريح الانتفاضة، الذي صار نائباً، ما هو؟ كيف أضع الطوبة بشكل صحيح من «المدماك».. وبالكمية الصحيحة من الإسمنت بين طوبة فوق طوبة بجوار طوبة.. ثم على ورقة قصدير لعلبة دخان، كتبتُ شيئاً نسيته، قل «رقيّماً» كما يقول الباباوات، ودسسته في فراغ داخل الطوبة.
صارت هنا «محطة وقود»، وإلى جوارها معصرة زيتون آلية، بديلاً من نصف - الآلية. استقلّ الأنجال الكبار عن بيت الوالد - السيد المتواضع.
فلاّح يرتدي كما أبي الفلاّح، سيّدٌ أبيٌّ مثله.
صار زميلي يتيم الأم والأب مثلي، وصرتُ مواطناً مثله.. واستخدمت حقّي كمواطن - ناخب لحثّ النائب مهيب على العمل كي لا يغدو الوادي الجميل «زاروباً» من المساكن يصل عين عريك بآخر المباني الزاحفة لمدينة بيتونيا.
الآن، لن أسأل أولاد سلامة إنْ صادفتهم: كيف صحّة الوالد؟ أعطاهم عمره، ليعطوا القرية والوادي والبلد.