حسن البطل
1 - الخوصة في الزّنار
كنّ يذهبن إلى الحقول. من هن؟ أرامل نساء فلسطين - الساحل وبناتهن. يذهبن للعمل أجيرات يوميّات في حقول دوما، كبرى قرى دمشق.
كنّ يغدون الى الحقول، صبحا باكراً وكن يقفلن منها عصراً. يذهبن نشيطات، ويعدن متعبات. على رؤوسهن شيء من حطام الحطب، في أيديهن شيء من خضروات الحقول.. وفي زنانيرهن ماذا؟ هذه «الخوصة» عارية من قماط والزنار قماطها خلاف «الجنّبية» اليمنية.
عمتي مريم، أم الفتى والبنت تسعى إلى رزقها، فهي معيلة ولديها، بعد ان اختفت آثار بعلها في معركة الخروج من الطيرة.
نساؤنا كن سافرات الوجوه، ويعتمرن على رؤوسهن حطة بيضاء، لا كما تعتمرها «المحجبات» اليوم، بل كما هي حطة ستنا مريم.
نسوة فلاحات في حقول طيرة - حيفا، لما كانت الحقول حقولهن، صرن يعملن مياومات في حقول دوما، خاصة في موسم «الصيفي».
شبّ ابنها الوحيد محمود، فأراحها من ذلّ الحاجة الى العمل في حقول ليست حقولها، وشبّت ابنتها «الصوصة» آمنة وأراحتها من شغل الطبخ.
ماتت عمتي مريم، وبعلها عبد الحليم بقي مفقوداً. ماتت ولم تر البحر منذ زمن النكبة.. ولا حقولها.
2 - «راسه بعبّه» خبز التنور وخبر اللاجئين
أمي وعمتي ونساؤنا يخبزن طحين الوكالة في فرن بدائي متقن من الطين والشعر. يخبزن رغيفاً سميناً من طحين الوكالة. نارها من عيدان أغصان الدالية، أو من هذا «اللطع» المجفف.
كنا صبية نذهب صباحاً إثر قطعان الفلاحين من ماعز ودواب وبقر، ونجمع روث «اللطع» في سطل، وتجفف أمهاتنا روث الحيوانات تحت الشمس .. ثم يخبزن عليه.
هل كان خبز طحين الوكالة قمحاً كاملاً، كما كانت نساء قرية دوما يخبزن في هذا «التنور» خبزاً مسطحاً رقيقاً من القمح الصلب السوري الكامل. التنور فرن اسطواني مائل وقوده من عيدان «القنّب» الذي كان يُزرع ويُحصد لغير استعمالات صنع حشيشة الكيف منه.
الخبز الكامل من القمح يسمونه «راسه بعبّه» ولا أعرف هل خبز الوكالة مخلوط بطحين البطاطا مثلاً.
خبز من نوع ثالث وأغلى في الأفران يسمى «خبز الزيرو» وهو مقشود (سكايميد) من النخالة ومن «عبّ» حبة القمح، وكان رغيف الأغنياء.
3 - الولد الشغّال
«الخوانم» السيدات و«الهوانم» الآنسات يخطرن في أزقة القرية مجلببات أبداً بما يشبه «الشادور» الايراني، ولكل نساء قرية ألوان تختلف عن ألوان قرية لصيقة. لماذا لا! حتى يميز الرجال الأشاوس «الدومانية» عن «الجويرية» عن «الزملكاوية» .. كما يميزون قطيع الخراف!
.. إلاّ في يوم «الشغّال» الشامي الذي يأتي الى القرية ببقجات قماش موشحّات بخطوط مطبوعة على القماش بلون ذهبي فاتح.
كنّا صغاراً لم ندرك سن الحلم، وكان مسموحاً أن نرى الشغّال يتربع في دار «الخوجه» والنساء يتحلقن حوله، ويوزع عليهن الأقمشة ليطرزنها بخيوط لونها بين الذهبي والنحاسي. يسمّون هذه الأقمشة «أغباني» ويلفها الرجال في أسواق دمشق العتيقة إما على طرابيشهم أو على زنانيرهم او تغدو غطاء للخوان، وتُرفع لما تغدو الخوان مائدة (الخوان مائدة فارغة).
الشغّال هو الوحيد من الرجال الذي يختلي بنساء القرية او «الحريم» وهؤلاء كنّ يتبرجن ويتعطرن، ربما ليقوم الشغّال بغض البصر عن اخطاء التطريز خارج الرسوم المطبوعة.
فقط في بيت الخوجه أو الحجّة كنا نرى نساء القرية وبناتها سافرات الرؤوس، دون هذه العباءة - الشادور.. وإلى الآن أتذكر خليط روائح «عرق النساء» مع العطور المختلفة .. رائحة الإناث!
4 - فستق العبيد
إما تشتغل نساء اللاجئين في حقول الغوطة مواسم «الصيفي» أو يشتغلن على ماكينات تطريز لصالح «الشغّال» وبضاعة أقمشة «الأغباني» او كما حال نساء اللاجئين في دمشق يشتغلن على «فصفصة» قرون فستق العبيد.
يسلمّ تجار سوق ساروجه نساء اللاجئين شوالات خيش محشوة بقرون الفستق، وتعمل النساء على فتق القرون واستخراج حبّات الفستق. الوزن محسوب بين «قائم» القرون و«صافي» حبّات الفستق .. لكن مع هامش ضئيل، حيث كان أولاد اللاجئين الجياع أبداً «يرمّون» حفنات من حبات الفستق.
* * *
رجالنا بالحطة البيضاء والعقال. رجالهم بـ «السلك» وهو حطة مبرقشة بلا عقال. رجالنا بالسراويل (البناطيل) ورجالهم بالشراويل. نساؤنا بحطات الست مريم، ونساؤهم بالشادور. أولادنا بالشورت والصندل وأولادهم غير شكل.. أعراسنا مختلطة، وأعراسهم غير مختلطة.
مع ذلك تعايش اللاجئون مع الدوامنة كما يتعايش خليط الرز مع العدس. ستمر عشرون سنة قبل المصاهرة بين فلسطيني ودومانية وعشرون فوقها قبل مصاهرة بين فلسطينية ودوماني.
دوما لم تعد دوما العروبية الناصرية. دوما صارت إسلامية.