بصمات الأيام الأوكرانية

بصمات الأيام الأوكرانية

بصمات الأيام الأوكرانية

 صوت الإمارات -

بصمات الأيام الأوكرانية

بقلم - غسان شربل

استولت الأيام الأوكرانية على أيامنا. كأنَّ العالمَ الجديدَ يُولد هناك. من الدم الأوكراني والدم الروسي وبكاء البيوت المحترقة، وركام القانون الدولي وأشباح الرعب النووي. عالمٌ شائكٌ ومقلقٌ ومفتوح على كل الأخطار. على الألماني أن يتذوَّقَ النوم على أطراف الصقيع. على البريطاني أن يتعلَّمَ التواضع. على الفرنسي أن يقتصدَ في إنارة المتاحف والمنازل. على المواطن البعيد التدرب على مائدة أقل وخبز أصعب. وعلى الحكومات أن تتحسَّسَ ترساناتِها وتوفّر الصواريخَ والمسيرات لجنرالاتها.
نحن الآن في أيام بالغة الخطورة. لا غموض حول نتائج الاستفتاءات التي شهدتها المناطق الأوكرانية «الانفصالية». واضح أنَّ السكانَ سيقترعون لمصلحة الاستقالة من الخريطة الأوكرانية للالتحاق بروسيا. إجراء الاستفتاء في ظلّ الوجودِ العسكري الروسي لا يترك للغرب أيَّ فرصة لقبول نتائجه. وموسكو مفرطةٌ في الوضوح والحزم. بعد صدور النتائج ستعتبر الأقاليمُ التائهة جزءاً من ترابها، ولن تتردَّدَ في استخدام كامل ترسانتِها إذا تعرَّضت الأرضُ الروسية للاعتداء.
تتصرَّف روسيا وكأنَّ ما كُتب قد كتب. وأنَّ على العالم أن يسلّمَ بالحقائق الجديدة. وأنَّ سيدَ الكرملين لا يملك رفاهيةَ التراجع عما أقدم عليه. اتَّخذت الأزمةُ بعداً مخيفاً حين مُني الجيش الروسي بانتكاسات مفاجئة تركت جروحاً في صورة بلاده وزعيمها. وسببُ الجروح معلن. إنَّه الأسلحة الأطلسية والمعلومات الأميركية التي أتاحت للجيش الأوكراني أن يرفعَ علمَ بلاده فوق الدبابات الروسية المتروكة في أرض المعركة.
أمام المشاهد المؤلمة كان على فلاديمير بوتين أن يتَّخذَ قراراً صعباً. إمَّا خفض الأضرار والبحث عن مخرج، أو الذهاب أبعد وجعل الأزمة أشدَّ خطورة على أوكرانيا والعالم وروسيا أيضاً.
اعتمد بوتين الخيار الثاني. الأول لم يكن مطروحاً. روسيا لا يحكمها إلا رجلٌ قوي. في أزمة الصواريخ الكوبية لم يغفر جنرالاتُ الجيش والحزب لنيكيتا خروشوف أنَّه أبدى مرونة في مواجهة جون كينيدي. صادروا منه الأختام ودفعوه إلى التقاعد والوحشة. روسيا تحتاج دائماً إلى قوي. لهذا لم تحب غورباتشوف «الضعيف». ولم تحتضن يلتسين «المترنح». أمام الخسائر اتَّخذ بوتين قرار المقامرة بكامل رصيده. أعلن التعبئةَ الجزئية، واستدعى مئات آلاف الجنود إلى المعركة. لهجةُ الكرملين توحي بالاندفاع في حرب مقدسة شبيهة بالحرب الوطنية الكبرى التي خاضها ستالين. حرب لا مجال فيها للتراجع أو الخسارة. لهذا تكرَّر التلويح بالأسلحة النووية أو التذكير بوطأتها. ارتفاع شعبية بوتين لا يلغي مشهد طوابير الروس الذين يحاولون الفرار إلى الدول المجاورة. لا يريدون أن يكونوا وقوداً في «الحرب المقدسة».
أخطر الأزمات هي تلك التي تطلب فيها من المنخرطين بالحريق أن يقدموا ما لا قدرةَ لهم على تقديمه. بعد أيامٍ ومع إعلان المناطق الانفصالية الأوكرانية جزءاً لا يتجزأ من روسيا يقفل بوتين طريق العودة. لن يكونَ قادراً على التراجع. يصعب الاعتقاد أيضاً أنَّ فولوديمير زيلينسكي سيكون مستعداً للتوقيع على «الطلاق» مع جزء من خريطة بلاده. سيكون من الصعب جداً على أوروبا التسليم بعودة القارة إلى مشاهد تغيير الخرائط بالقوة. وسيكون من الصعب أيضاً على أميركا القبول بأن تحقّق انتفاضة بوتين على عالم القطب الواحد، مكاسبَ تغريه بمواصلة انتفاضته في وقت لاحق.
إنَّها حفنة أيام تنذر بتغيير العالم بأسره. إذا كان يحق لروسيا أن تُلحقَ مناطق أوكرانية بخريطتها، فكيف لا يحق للصين استعادة تايوان وهي جزء من لحمها أصلاً؟ وهل يمكن التسليم بحق القوي في استخدام القوة، بذريعة درء أخطار يزعم أنَّها تحدق بأمنه؟ وماذا عن النزاعات الحدودية هنا وهناك؟ وعن الدول المجروحة المتبرمة بحدودها الحالية بفعل ذاكرتها الإمبراطورية؟ وفي منطقتنا ماذا ستستنتج إيران وتركيا وإسرائيل؟
ثمة من يتخوَّف أنَّنا في الطريق إلى الفصول الأكثر هولاً في الحريق الأوكراني. لهذا يسري القلق في عروق العالم. هزَّت الأزمة عصبين رئيسيين فيما كان يُدعى «القرية الكونية» وهما الطاقة والغذاء. لا يستطيع أحدٌ الادعاء أنَّ هذه الأزمة لا تعنيه. العالم القديم يتصدَّع والعالم الجديد يولد من مخاض دموي مفتوح.
دفعت العاصفةُ الأوكرانية دولاً كبرى إلى إعادة النظر في سياسات ومواقف وحسابات. الذين اعتقدوا أنَّ منطقة الخليج العربي تراجعت أهميتُها، ويمكن الابتعاد عنها أدركوا خطأ حساباتهم. هذا يصدق على إدارة بايدن وحكومات غربية أخرى. زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى السعودية والإمارات وقطر دليلٌ واضحٌ على هذه اليقظة.
في العاصفة الأوكرانية تتصرَّف السعودية بدرجة عالية من المسؤولية الدولية. إنَّها لاعبٌ كبير في مجال الطاقة، لكن ترسانة العلاقات الدولية والشراكات التي نسجها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السنوات الأخيرة ترشحها لدور أكبر. القدرة على التحدّث إلى الجميع على رغم حدة الاصطفافات. واتخاذ القرارات في ضوء المصالح، وفي ضوء المسؤولية الدولية. التمهّل في قطع الالتزامات والوفاء بها بعد قطعها. في هذا السياق يمكن فهم الوساطة التي قادها محمد بن سلمان وأدَّت إلى الإفراج عن أسرى من جنسيات مختلفة. خطوة كانت موضعَ ثناء في موسكو وكييف وواشنطن ولندن وعواصم أخرى.
لا مبالغة في القول إنَّ الأيامَ الأوكرانية ستغيَّر العالم. بعد ضمّ مناطق من أوكرانيا إلى روسيا يصعب توقّع لقاء بوتين وزيلينسكي الذي يسعى إليه إردوغان. عودة بلاد بوتين إلى البيت الأوروبي أو الغربي لا يمكن أن تكون قريبة. دفع روسيا إلى مصير آسيوي أو مستقبل آسيوي ليس حدثاً بسيطاً على الإطلاق. الأيام الأوكرانية قد تفتح الباب لإلحاق إصابات مؤلمة بدور أوروبا وتماسكها. لهذا يتزايد الحديث عن الصين التي بخلت على بوتين، في سمرقند كما في نيويورك، بمفردات التأييد التي كان يشتهي سماعها. يحتاج العالم إلى من يخرجه من الحريق الأوكراني. لا يمكن أن يمشيَ إلى وقت طويل على الحبل الأوكراني المشدود من دون أن يقعَ في النار. من يستطيع طمأنةَ بوتين الخائف؟ من يستطيع وقفَ بوتين المخيف؟ بعد أيام تتغير خريطة أوكرانيا. بعد أيام تتغيَّر خريطة العالم. طُويت صفحةُ ما بعد جدار برلين. بعد أيام ستعيد ولادة «الجدار الأوكراني» صياغة التحالفات والاصطفافات.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بصمات الأيام الأوكرانية بصمات الأيام الأوكرانية



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 10:24 2024 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

طرق متميزة ومُساعدة في تنظيف غرفة النوم وتنظيمها
 صوت الإمارات - طرق متميزة ومُساعدة في تنظيف غرفة النوم وتنظيمها

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يحمل إليك هذا اليوم كمّاً من النقاشات الجيدة

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 02:29 2024 الأحد ,01 أيلول / سبتمبر

أطفال غزة يبدأون أخذ تلاقيح شلل الأطفال

GMT 06:33 2024 السبت ,06 تموز / يوليو

سوناك يقر بالهزيمة في انتخابات بريطانيا

GMT 10:44 2020 الأحد ,13 أيلول / سبتمبر

جيني إسبر تُعلق على عدم تواصلها مع نسرين طافش

GMT 16:04 2020 الأربعاء ,01 إبريل / نيسان

غريفيث يُحذِّر من عواقب تفشي "كورونا" في اليمن

GMT 15:38 2019 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

تعرف على مميزات سيارات "مازدا 3"

GMT 16:21 2013 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

اجتماع حول مشكلة الوحدات السكنية في مدينة الابيار الليبية

GMT 14:14 2013 الأربعاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

"مستورة" رواية فلاحة مصرية عن دار "دوّن"

GMT 01:15 2016 الثلاثاء ,08 آذار/ مارس

أروع النشاطات الممتعة في أبو ظبي

GMT 13:29 2017 الخميس ,21 كانون الأول / ديسمبر

الحقائب البراقة" عنوان أناقتك في موسم الأعياد"

GMT 14:13 2017 الأحد ,17 كانون الأول / ديسمبر

الشيخ طحنون بن محمد يعزّي في وفاة حمد الظاهري

GMT 12:49 2013 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بركات "ملك الحركات" قريبًا فى برنامج إذاعيٍّ على تردُّد "9090"

GMT 01:26 2016 الأربعاء ,03 شباط / فبراير

البنك الدولي يعلن عن خطة عمل مناخية لأفريقيا
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates